"هتدفع.. هتدفع (ضحكة ساخرة).. هوريك اللي عمرك ما شفتوش، طالما هتدفع، إنما ببلاش؟! أنا معرفش حاجة اسمها ببلاش".
عبارة رصدتها الكاميرات، وسجَّلها التاريخ في صفحاته السوداء، فالعجيب فيها أنها لم تصدر من بائعة هوى أو فتاة ليل، ولم تكن في إحدى الحانات أو داخل ماخور، بل صدرت من لواء عسكري مصري، في ندوة عقدها له الجيش.
لم يتخيل المصريون وقتما صدمهم الفيديو المسرب أن يتربع على عرش بلادهم، من كان يشغل يومها منصب وزير الدفاع، "عبد الفتاح السيسي" ابن حارة اليهود، وتصبح سياساته ونظرياته في الحكم جميعها، نابعةً من العبارة المشينة سالفة الذكر.
إرادة مصر للبيع
أمام قادة الجيش المصري، ولسبب غير معروف يتقدمهم ولي عهد أبوظبي، وعدد من ممثلي الدول الخليجية، ومعهم قائد محاولة الانقلاب الليبية "خليفة حفتر"، ألقى "السيسي" خطبة له في مدينة الحمام بمرسى مطروح، بمناسبة افتتاح قاعدة عسكرية، قيل إنها الأكبر في الشرق الأوسط، وبعيداً عن تواجد القاعدة، بالقرب من حدود مصر الغربية وليست الشرقية حيث عدونا التاريخي إسرائيل، وما لهذا من دلالات واضحة، فقد حفل خطاب السيسي كعادته بالعبارات المبهمة، والجمل المبتورة، والأفكار الناقصة، مع مزيج عجيب من لغة نسائية ترتكز على الكيد والتعريض والغمز واللمز، بعضها فُهم على كونه تعريضاً بأمير قطر "الشيخ تميم بن حمد"؛ حيث قال السيسي بلغته العربية الركيكة: يعني أنتم عايزين تتدخلوا في مصر؟! ده المصريين 100 مليون بيفطروا ويتغدوا ويتعشوا بأكل سنة في بلاد تانية!
وتابع: عايز تتدخل في مصر!
متسائلاً: "طيب ليه؟! تقدر أنت على مصروف مصر؟!
تقدر تصرف 100 مليار دولار سنوياً على مصر".
وختم بغضب شديد: "ما تقدرش، يبقى خليك في حالك أحسن".
السيسي هنا يسجل نفسه كأول حاكم في التاريخ يضع تسعيرة لثمن التدخل في سياسات بلاده، لم تكن مشكلة أمير قطر إذن مع السيسي هو الادعاء بمحاولات تدخله في شؤون مصر، بل عدم قدرته (أو رغبته) على دفع الثمن، والذي يبدو أن الإمارات قد قامت بسداده، فباتت أراضي مصر ومشاريعها وشركاتها وأصولها محجوزة مقدماً للمستثمر الإماراتي، بينما القرار السياسي يأتي رأساً من قصور أبوظبي إلى قصر الاتحادية.
كل شيء معروض للبيع
في أواخر فبراير/شباط من العام الماضي، انفجرت حالة مُركبة من السخرية والاندهاش في آن واحد، حفلت بها صحف العالم وفضائياته وبرامجه الساخرة، حين وقف السيسي في حفل افتتاح أحد مشاريعه الكثيرة والغامضة (والتي غالباً، لا يرى المصريون منها سوى حفل الافتتاح، وبيانات الخسائر لاحقاً)، ليصرخ بمنتهى التأثر قائلاً: "والله العظيم، أنا لو ينفع أتباع لاتباع".
المضحك في الأمر، أن أحد المصريين استجاب لدعوته بالفعل ووضع اسمه وصورته على مواقع ومزادات البيع العالمية، مع تعليق ساخر، كان هو النكتة الأبرز ليس فقط في عام 2016، بل في عصرنا الحديث بأكمله، (السيسي أول حاكم في العالم يعرض نفسه للبيع، بل ويبيعه شعبه).
في الحقيقة، لم تكتمل عملية البيع، وذلك لأمرين، أولهما: عدم وجود أسواق نخاسة مشروعة في عصرنا الحالي لا للعبيد ولا حتى للجواري، تمكننا من بيع السيسي، وأيضاً لعدم جدية الأخير، الذي لم يكن عرضه للأسف، سوى تمهيد لخطته التي نفذها باقتدار في أعقاب ذلك، وقام ببيع كل شيء في مصر، بدءاً من القرار السياسي، إلى الأرض والحدود "تيران وصنافير"، إلى الممتلكات والثروات، "نيل وحقول غاز وبترول بالرضوخ لاتفاقيات مجحفة سعى إليها بنفسه لنيل اعتراف بشرعيته في الحكم"، لمؤسسات وأصول وشركات قطاع عام "آخرها شركة إنبي للبترول والمشتري كان: بنك دبي الوطني في الإمارات" إلى إرسال جنود مصر كمرتزقة في حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل "مرة لدعم انقلاب ليبيا وأخرى لدعم الحملة العسكرية السعودية في اليمن".
ينظر السيسي إلى مصر كـ"امرأة سبية"، غنيمة، فاز بها في حربه اليتيمة، التي خاضها كقائد للجيش المصري، أثناء انقلابه العسكري على الرئيس المنتخب عام "2013"، مستعيناً فيها بخيانته وأسلحة المصريين، امرأة معيلة، يتسول بها وبأبنائها تارةً، ويبيع جسدها لمن يملك المال، تارةً أخرى، ويهدد كل من يحاول منازعته في ملكيتها بالحرب الضروس: "قسماً بالله، اللي هيقرب منها، لأشيله من فوق وش الأرض".. هكذا قال في واحدة من خطبه.
لم يكن الأوبريت الغنائي "مصر قريبة" الذي أحدث ضجة مدوية، وغضباً عارماً بين أوساط المصريين، سوى جزء من تصور السيسي لمصر، قام صناع العمل الفني بترجمته بدقة، في مشهد الفنانة غادة عادل، وهي تنظر نظرات مريبة للسائح الخليجي وتهديه وردة حمراء؛ حيث الإشارات الواضحة، لتصوير مصر كـ"عاهرة" تبيع نفسها مقابل المال، وهو ما دفع نشطاء مواقع التواصل لتسمية الأوبريت بـ"مصر الرخيصة"، بل وأصر لاحقاً الإعلام المصري على تأكيده، حينما قامت مؤسسة الأهرام، أعرق مؤسسات مصر الصحفية، بتصميم صورة ضخمة تم تعليقها كشعار لمعرض الفن التشكيلي، الذي تم تنظيمه تحت اسم "تحيا مصر"، وفيه، يحتل المغني الخليجي "حسين الجسمي"
الحجم الأكبر من الصورة وهو يصفق بكلتا يديه، بينما تظهر امرأة بحجم صغير ترتدي عَلَم مصر وترقص وتتمايل أسفل منه، وهي الصورة التي اعتذرت عنها المؤسسة الصحفية، بعد ضجة مماثلة، وشعور مرير بالمهانة، أمطر به المصريون صفحات التواصل الاجتماعي، تم حذف الصورة بالفعل من على حوائط المؤسسة، لكنها ظلت محفورة بارزة، فوق رايات "عبد الفتاح السيسي"، يحملها بيده، في كل خطبة أو مناسبة أو محفل دولي، وما زالت إلى اليوم، تقْطُر خزياً وعاراً، فوق رؤوس المصريين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.