غالباً ما تأتي ظروف التوترات والأزمات السياسية يصحبها نوع من الغموض، والمخاوف من تصاعد هذا التوتر أو انحرافه عن المسار الدبلوماسي، فيما يتعلق بعلاقات الدول بعضها ببعض، في الإطار الفردي أو حتى فيما يتعلق بالتحالفات الدولية.
والأزمات السياسية هي تعبير واضح عن وجود حالة من اللاتفاهم في الإطار الدبلوماسي في حلحلة الإشكالات أو القضايا التي هي محل خلاف بين أطراف الأزمة. وهنا يصبح ثمّة قلق محدق حول تطور الصراع وخروجه عن الإطار السياسي كخيار لفرض القوة في معالجة القضايا الخلافية.
ومن هنا، ارتبطت الذاكرة التاريخية عند انسداد الأفق السياسي وحدوث الأزمات السياسية بالنكبات والحروب ومآلاتها. لذا يتم النظر إليها من زاوية قاتمة تسود المجتمعات بصفة عامة ولا تستثني حتى الطبقات النخبوية من المثقفين والساسة، إلا أن ثمّة من تأمل وتدبّر بعمق معنى التماس اليسر مع العسر، وأدرك ما وراء الارتجاج الذي تحدثه التوترات السياسية، ولنا مع محنة قطر دروسٌ وعبر صنعت من قطر الجغرافيا قَطر التاريخ.
يظن الكثيرون أن المِحنة السياسية التي مرت بها قطر أصابتها في مقتل، وتعمقت في وجع القطريين، وهددت قطر وجودياً من جوانب متعددة. فقد قامت دول الحصار بالتضييق الجيوسياسي وقطع كل أشكال العلاقات المتبادلة مع قطر، وهدفت إلى عزل قطر وإبعادها عن محيطَيها العربي والخليجي.
بل وسَعت بأشكال متعددة لعزلها دولياً بعد أن حاصرتها براً وبحراً وجواً، وقطعت كل أواصر الصِّلة بين قطر وخليجها؛ بل بين القطريين وأهليهم في مختلف الدول الخليجية المحاصِرة لها، في خطوة سابقة بالمجتمع العربي عموماً والخليجي، خصوصاً أن تتجاوز اللاتفاهمات السياسية، فجوراً في الخصومة السياسية، حد منع العلاقات الأسرية وحشرها في زوايا الصراع، والصد عن بيت الله الحرام، حيث مُنع القطريون من أداء شعائر العمرة وتعد كذلك سابقة خطيرة جداً؛ لكونها تعرّض الشعائر الدينية لإشكالية الاستخدام السياسي.
بالطبع، حدوث كل هذا مما اتضح لنا، وهناك -بالتأكيد- الكثير من التفاصيل والمعاناة التي ربما لم نطلع عليها -أو بالأحرى- لم نشعر بها. لكن بطبيعة الحال، فإن ظروف الأزمات تخلف الكثير من الأوجاع والضرر.
لكننا سنذهب أعمق مما تظهر لنا الصورة وسنخوض في تفاصيل ما وراء المِحنة: الوجه المشرق لمحنة الحصار، وكيف حولها القطريون إلى منحة؟ وماذا استفادت قطر من كمين سياسي ومؤامرة حيكت خيوطها بليل أسود، والتي على الأقل -من وجهة نظري ونظر المراقبين من كثب- أن قطر تعاملت مع هذا الفخ بحكمة ودهاء بالغين، وصنعت لنفسها مجداً ومستقبلاً يليقان بها وبالمكانة التي تحظى بها دولياً، وخاضت تجربة مُرّة جديرة بالتمعن والدراسة المتعمقة للوقوف على أبرز الدروس التي علمتنا إياها قطر في محنة الحصار المؤسف.
قطر الواقعة في شرق شبه الجزيرة العربية ومطلة على خليج العرب، محاطة جغرافياً بشقيقاتها من دول الخليج العربي وتعد إحدى دول الخليج الصغيرة جغرافياً وتصغرها مملكة البحرين، فهي بالطبع تعتمد، بشكل مباشر، على الاتصال برياً وبحرياً مع دول الخليج في استيراد البضائع والمنتجات.
ولذا، كانت قطر تعتمد، بشكل أساسي، في رفد السوق القطرية بمنتجات خليجية، وهذا يعني قدرة تلك الدول على التحكم في هذا الأمر، رغم خطورته المتمثلة في إخضاع الشعب القطري بالجوع، وكان رهاناً مهماً بالنسبة لدول الحصار.
إلا أن إدراك قطر خطورة المسألة جعلها تتصرف بذكاء وفِي ظرف قياسي، وكانت قد أخذت احتياطاً سابقاً علمها درس الخلاف السياسي السابق وكذلك فتح خط الاستيراد من تركيا. وهذا يجعل القيادة القطرية تضع يدها على الثغرة لسدها وتبدأ في تحصين ذاتها وتأمين احتياجاتها الأساسية بدعم المنتج المحلي، وتبني مشاريع اقتصادية عملاقة، على الأقل تلبي احتياج السوق القطرية من المنتجات الغذائية والاستهلاكية؛ لترسيخ قواعد صلبة تقوم عليها البلد لضمان احتياجاتها الأساسية وتخفيف الاعتماد على الاستيراد الخارجي.
يأتي بعد ذلك إيجاد نوع من تعادل القوة العسكرية بين أطراف الأزمة، فالدول المحاصِرة تتكئ على ترسانة من الأسلحة الحديثة وتتمتع بمساحة ضخمة وتعمل بعزم في كسب الولاءات والمواقف لتأييد إجراءاتها السياسية وربما العسكرية.
وهذا الموضوع بالذات لفت انتباه القيادة القطرية في وقت مبكّر وسارعت به تركيا في تفعيل اتفاقيات التعاون الأمني المشترك بينها وبين الدوحة؛ لتدارك الأمور قبل الانزلاق في خطوات تصعيدية قد تحدث.
وتكون قطر بهذا قد استفادت كثيراً في إعطاء القوة العسكرية والأمنية عناية فائقة، والعمل على تطويرها لتعزيز سيادتها وحفظ أمنها من أي مخاطر قد تتهددها، بالإضافة إلى أهمية التحالفات والتنسيق العسكري بين قطر والدول الأخرى، وكان الدور التركي أنموذجاً فاعلاً.
كانت قطر متقيدة في إطار مجلس التعاون الخليجي بالتزامات مشتركة في مختلف الجوانب، وفقاً للسياسة التي تنتهجها دول الخليج إجمالاً، وكانت بعض الدول الخليجية هي المهيمنة على القرار الخليجي، ولم يكن بمقدور بعض الدول التعبير عن نفسها، وعن سياساتها الخارجية بوضوح نحو العديد من القضايا السياسية والأمنية.
فكان الحصار بمثابة منبر حر لقطر لتقدِّم نفسها للعالم بصورة أكثر وضوحاً، يعكسها الفعل الشعبي والدبلوماسي القطري في تعامله مع أزمته ومساهمته في إبراز قطر ككيان عربي إسلامي له سيادته الكاملة على أرضه، بالإضافة الى سياساته الخاصة به في ضوء ما ينظر إليها اعتباراً لمصالحه العليا.
فدولة قطر تنظر إلى القضايا من زاويتها وتتخذ مواقفها انطلاقاً من وجهة نظرها، وفقاً لسياساتها الخاصة نحو القضايا الأخرى، خصوصاً ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط والمجتمعين العربي والإسلامي تحديداً.
قراءة معطيات الواقع بناء على انطباعات موجودة مسبقاً غير دقيق؛ لكون المواقف تتغير وتدور معها المصالح وينتج عنها نتائج عكسية أحياناً. ولهذا جاءت الأزمة السياسية لتعطي قطر معطيات صحيحة ودقيقة تستفيد منها قطر مستقبلاً.
ومن ضمن المعطيات على سبيل المثال، إدراك قطر مدى ونوعية العلاقات التي تجمعها في محيطيها الخليجي والعربي أيضاً وعلى أي أساس تعتمد تلك العلاقات. ثم ما هي القيمة الفعلية للتكتلات والتحالفات السياسية، ويظهر ذلك من خلال تجميد دور مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية في قضايا تُعدّ من أساس وجود هذه المسميات.
من المعطيات التي اتضحت لقطر أيضاً، أين يكمن العداء الفعلي؟ وما حجمه؟ وما هو الضرر الذي قد يُحدثه ربما؟ وكيف يمكن ترتيب صفها الداخلي وبناء تحصيناتها للتعامل مع تهديدات قد تتعرض لها؟
وفي المقابل، أين تكمن المواقف المساندة والمعاضدة؟ وما حجمها؟ وكيف يتم الاستفادة منها وتعزيز التعاون الاستراتيجي معها، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي؛ وذلك لتوسيع محيطها المؤثر وقاعدة مصالحها المشتركة مع تلك البلدان، وخصوصاً تركياً وبعض الدول الأوروبية التي أبدت مواقف إيجابية نحو قطر وتعاطفت معها بإيجابية أكثر؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.