كتبت هذا المقال في ذكرى 25 يناير/كانون الثاني 2016، وقتها كنت ما زلت أحاول أن أخادع نفسي بأن شيئاً يمكن أن يتغير للأفضل، وأن المشكلة تتلخص في سوء ترتيب الأولويات فقط، ولم أكن قد وصلت إلى اليقين الذي وصلت له لاحقاً بأن الإبقاء على الفساد صار متطلباً أساسياً، وليس القضاء عليه، الذي كنت أناصح في المقال للفت النظر إلى أولويته.
وما زال ما كتبته منطبقاً على الواقع!
**********
في مصر ازداد الصراع على الإنترنت بمناسبة اقتراب ذكرى 25 يناير بين شباب متحمس يرغب في التظاهر بمناسبة تلك الذكرى اعتراضاً على عدم تحسن الأوضاع كما يرى، وبين المتحمسين لحكم الرئيس الذي هو ضمنياً قبول بحكم المؤسسة العسكرية، وهم في المقابل متفائلون أو لنقل راضين بالحال كما هو عليه.
وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة بين الطرفين التي لا تخفى على متابع سنبدأ حديثنا بأن نحلل ببساطة أسباب تكوّن هذا الرأي وذاك.
لماذا يسخط هؤلاء ويرضى أولئك؟
أرى الأمر ناتجاً ولا شك من اختلاف طرفَي المقارنة في ذهن كلا الطرفين، إضافة إلى ما يرونه الوضع الأمثل.
الشباب يقارن بين الوضع الاجتماعي والاقتصادي وحجم الفساد الإداري قبل الثورة وبعدها ويرون أن شيئاً لم يتغير، وهذا بالفعل صحيح ولا ينكره إلا كذوب، بينما الراضون يرون أن في هذا إجحافاً لكونه لا يراعي حدوث تغييرات في الأوضاع للأسوأ بعد الثورة، بل وشروع فيما هو أسوأ من الجهة الأمنية.
كانت تلك التغيرات الأمنية تحديداً كفيلة لو تمت بإعادتنا إلى القرون الوسطى وتدمير بنيتنا التحتية بالكامل مثلما حدث في دول مجاورة.
فكأن الشباب لسان حالهم يقول كنا صفراً وما زلنا صفراً، وكأن الراضين يقولون كنا صفراً ثم تدهورنا إلى (-10) وها نحن قد تحسنا مجدداً وعدنا إلى نقطة الصفر.
قطعاً كلامي يبدو للوهلة الأولى أنه في صف الراضين بالأوضاع في مصر، وأنني ناقمة على الشباب، ولكن الحقيقة أنني لست على وفاق مع أي من الطرفين. فلا مزيد من الثورات وإراقة الدماء ستحسن الأوضاع، ولا هي الأوضاع عظيمة وليس في الإمكان أفضل مما كان كما يخرف البعض باسم الوطنية.
ورأيي هذا ليس انتماءً مني لمدرسة "خالف تُعرف"، بل لأنه توجد نماذج تاريخية كثيرة نجحت في تغيير أوضاع أسوأ وأشد فساداً من الأوضاع الحالية في بلدنا، وكلها بلا استثناء لم تشرع في تشييد مشروعات كبرى متصورة أنها نقطة البداية لتصحيح الأوضاع مثلما يتصور رئيسنا، أو تصور له حاشيته التي من الواضح أنها فاسدة وتسعى لاستمرار الفساد الذي تنتفع من استمراره، بل شرعت تلك النماذج التاريخية في محاربة الفساد على كافة الأصعدة للبناء على أرضية سليمة نظيفة؛ لأنه لا يمكن أن يحدث تقدم مع بقاء المرتشين، وناهبي المال العام، والحريصين على تحقيق أقصى استفادة من مراكزهم الوظيفية دون حق، إضافة إلى القيادات غير الكفؤة التي تحارب الناجحين ولا تهتم سوى بالظهور الإعلامي، هؤلاء ممن يجثمون على كاهل المنظومة الإدارية في مصر ويعيقونها.
ويجب أن يفهم الرئيس أن مشروعاته لن يكون لها قيمة في ظل بقائهم، وأنه لو كانت المشروعات تشفع مع بقاء الفساد جاثماً ما قامت الثورة على مبارك الذي أنشأ بنية تحتية تفتقر بعض دول الخليج لمثلها.
كانت أولى فتن الإسلام الكبرى في عهد سيدنا عثمان بن عفان، وفسدت الأحوال السياسية، فماذا كان من سيدنا علي بن أبي طالب عندما ولّي الخلافة؟ لا يذكر لنا التاريخ أنه شرع في تشييد مشاريع ولا سيّر جيوشاً لفتح البلدان بل أعلن العودة لمبادئ العدل والمساواة التي أكد عليها الإسلام، وأنه سيعيد الأموال التي اقتطعها بنو أمية من بيت مال المسلمين، وعزل الولاة الظلمة الفاسدين الذين ضجت منهم الأمة.
صحيح أن القلاقل السياسية والخصومات ورفض معاوية بن أبي سفيان تنفيذ قرار العزل عن ولاية الشام ثم بغيه على أمير المؤمنين، وغيرها من الأحداث السياسية قد أعاقت مساعي سيدنا علي في العودة بالأمة الإسلامية إلى ما كانت عليه حتى نهاية عهد سيدنا عمر، إلا أن المؤكد أن سعي سيدنا علي في سنوات حكمه القليلة كان منصباً على تصحيح الأوضاع الفاسدة لتكون مقدمة لحكمه، وواكبها تقديم الخدمات الجماهيرية التي تسعى لإقرار العدل والأمن؛ فنظم الشرطة، وأنشأ دار المظالم، وبنى السجون لردع مَن يستحق وتحقيق الأمن.
ونسمع كثيراً عن عمر بن عبد العزيز، وسيرته الزكية في سنوات حكمه، والخير الذي فاض على المسلمين في عهده، فهل نعرف كم قضى عمر في خلافته حتى أتم كل هذا؟
استمرت خلافة عمر سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام على أرجح الأقوال.
والسؤال الأهم: ما هي الخطة التي انتهجها ابن عبد العزيز حتى أصلح البلاد والعباد في تلك الفترة القصيرة؟
سنجد أنها نفس الخطة التي ارتآها سيدنا علي من قبله، وهي تحقيق العدل والمساواة، ورد المظالم والأموال المنهوبة إلى بيت المال، وعزل جميع الولاة الظلمة، واستعان بالبطانة الصالحة كما فعل سيدنا علي، والتي كان افتقادها أكبر مصيبة اُبتلي بها سيدنا عثمان من قبل.
ولم يهتم بالمشاريع والفتوحات ظاناً أنها أفضل وسيلة لتخليد اسمه كما يفعل الطغاة والمراؤون في كل العصور، بل على العكس أوقف كل محاولات التوسع في أطراف الدولة، وسحب القوات من مناطق القتال، ومع ذلك خلّده التاريخ أكثر مما خلّد الفاتحين.
قد يقول قائل إن فترة حكمه كانت صغيرة، وإنها لو طالت لشرع في تشييد المشروعات وإنفاذ الجيوش، ولا يعنيني صحة هذا التوقع من عدمه، ولست ضد إقامة المشروعات النافعة، لكن ما أريد تقريره هو أن ما ينبغي لأي حاكم يرجو وجه الله من خلال حكمه أن يفعله ابتداءً هو القضاء على الفساد وأخذ الحق للرعية والدفاع عنها، وليس التزلف للتاريخ بالتشييد والفتوحات قبل أوانها.
وفي التاريخ الحديث هناك تجربة مهاتير محمد في ماليزيا، وكيف تحقق من ورائها تقدم عظيم؛ لأن الجرح لم يرم على فساد بل تم تنظيفه والقضاء على الفساد أولاً قبل عمليات البناء، وفي المقابل تجربة أردوغان في تركيا التي ركزت على تشييد المشروعات ورفع مستوى النمو الاقتصادي، ونجحت في هذا، ومع ذلك تثور ثائرة نسبة كبيرة من الشعب عليه من آن لآخر؛ لأن الفساد ما زال مستشرياً خاصة في الشرطة والقضاء، وطالما بقي الأمان والعدل غائبين ستبقى نسبة الساخطين مرتفعة مهما ارتفع المستوى الاقتصادي والخدمات في الدولة، ومَن يدّعي أن العلمانيين هم فقط الساخطون على حكمه يفتي من كيسه.
ولعل مما يلفت النظر أنه بالمقارنة بين أسلوب أردوغان وأسلوب السيسي في الحكم نجد أن كلا الرجلين له نفس الرؤية بأن إصلاح البلاد يكون بتشييد المشروعات والتنمية، هذا طبعاً مع مراعاة الفروق بينهما في محاولة تنفيذ هذه الغاية. بالرغم من ذلك فإن محبي الأول هم مبغضو الثاني والعكس، وهذا يدلل على أن جماهيرنا عاطفية تتحرك بلا وعي؛ لأنها لو وعت إما كانت مع كلا الرجلين أو ضدهما وليس اتخاذ موقف التضاد بين متشابهين.
والفساد الإداري كما هو معروف هو سوء استخدام السلطة العامة من أجل الحصول على مكاسب خاصة، وقد ينشأ من عدة عوامل مثل فساد النظام السياسي للدولة ككل أو سوء التخطيط لعملية التنمية الاقتصادية أو انعدام المساواة الاجتماعية، أو تدني مستوى التعليم أو اعتماد المركزية والبيروقراطية كنظام إداري مع تخلف الإجراءات الإدارية، وفي حالة بلدنا أرى كل هذه العوامل مجتمعة تقف وراء ذلك التنين بدرجة أو بأخرى، مع ملاحظة أن الفساد في بلادنا ليس عرضياً، بل هو شامل ومنتظم بحيث تترابط شبكات الفساد في قطاعات مختلفة، وتعرف كيف تبقيه راسخاً.
إن افتقاد بلادنا للنظم الإدارية السليمة هو أكثر ما نفتقده من عوامل التنمية والنهضة، فالعنصر البشري في بلادنا لا تنقصه القدرة على اكتساب المهارات الخاصة للنجاح في العمل، لكن تنقصه وجود قيادات تتقن العمل الإداري وتستطيع إدارة فرق العمل بشكل موضوعي غير متحيز. ولعل اليابان هي أبرز مثال عن أثر النظم الإدارية الناجحة في تحقيق التقدم الاقتصادي مهما نقصت غيرها من عوامل التنمية.
وكذا فإن الاهتمام بالإنسان وصناعة الموارد البشرية أساس قوي من أسس أي تنمية؛ لذا يجب التركيز على بناء الإنسان الذي يبدأ بإصلاح التعليم ولو على مستوى المتفوقين والاهتمام بهم، ثم التوسع شيئاً فشيئاً في عمليات الإصلاح، فما لا يُدرك كله لا يُترك كله.
في إحدى الندوات سمعت د. مصطفى الفقي يقول إن أزمة حسني مبارك كانت في اقتناعه أن التنمية في البنيان وليست في الإنسان، وأن كل همه كان عدد الكباري المشيدة وعدد المصانع المنشأة وغيرها، مع تجاهل تام لقيمة الإنسان وضرورة الارتقاء به حتى أفضى الحال إلى ما رأينا.
وفي رأيي فإن أسوأ ما يقال بشأن انتشار الفساد الإداري أنه عمل على زعزعة قيم المجتمع حتى وجدنا مَن يبرر له ويعتبره منظومة لا بد من مجاراتها، وأفقد الكثيرين الثقة في أنفسهم وما يمكنهم تحقيقه في ظل إدارة فاسدة لا تقدر الإخلاص في العمل بل تقدر على أساس الوساطات.
إن أردنا أن نتقدم فلا يلزمنا فقط أن تكون لدينا العزيمة والإرادة لتحقيق التنمية، بل لا بد من القضاء على كل عوامل ومسببات الفساد.
لا بد من التوقف عن التمييز بين المواطنين على أساس النوع (رجل/امرأة)، وعلى أساس الدين (مسلم/مسيحي)، ولا بد أن نتعلم العمل كفريق، ولا بد أن نكف عن التعامل مع المؤسسات التي نعمل فيها على أنها عزبة خاصة بنا نورثها لأبنائنا، ولا بد أن نختار العاملين والقادة، خصوصاً على أساس الكفاءة لا غير، ولا بد من محاسبة كل فاسد في موقعه وتوجيه ضربات لشبكات الفساد الضاربة في الهيكل الإداري للدولة حتى تتفكك وتضعف تدريجياً، ثم لا بد من إقامة مشروعات كبرى وجذب الاستثمار الخارجي، وخصخصة بعض القطاعات الخدمية، لكن بعد إزاحة الفساد الجاثم على مؤسسات الدولة وليس قبل ذلك.
والتاريخ يذكرنا أن كل مَن اهتموا بإنشاء المشاريع بغرض المجد الشخصي حدثت مصيبة في عهدهم وانقلب عليهم التاريخ وذكرهم في أسوأ صفحاته، وكل مَن اهتم بإصلاح أحوال العباد ورد المظالم وعزل الظالمين وتولية الأخيار وعمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه وحسنت سيرته.
أحترم جيشي وأحبه وأقدر تضحياته وأعلم أننا ندين له بعد الله سبحانه وتعالى بأننا آمنون في بيوتنا، ولكن الجيوش وُجدت لتحمي لا لتحكم.
العسكرية والانضباط هي أفضل مناخ لتوفير الأمان والردع، ولكنها الأسوأ للخلق والإبداع وتطوير المجتمعات ونظم الإدارة كونها تستلزم التبعية العمياء، خاصة في مجتمع كمجتمعنا يعشق التراث ويرفض التجديد.
لا أمل في أي تحسن ما ظل الفساد الإداري جاثماً، وما ظلت الكفاءات لا تجد لها مكاناً، وما أُتيحت الفرصة للأغبياء للتحكم في الأذكياء.
أتمنى لبلدي أن ينعم بالأمان وأن يتطور إدارياً فكلاهما ضرورة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.