في البداية لا بد من إثارة ملاحظة دقيقة حول ما يقع حالياً بالمغرب، وهي أننا نشهد عودة "مزاج سيّئ للسلطوية"؛ حيث تعيد الأحداث الأخيرة، سواء المتعلقة بتعامل السلطات مع حراك الريف من خلال القمع المفرط والاعتقالات العشوائية، أو تلك المرتبطة باستهداف استقلالية القرار الحزبي، كما هو الشأن داخل حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية، (تعيد) من جديد أسلوب الحكم إلى دائرة "ما قبل 2011″، مما يفرض من جديد إعادة طرح مسألة جدوى الإصلاح من الداخل، بل التساؤل بجدية: هل انتهى زمن المؤسسات وأصبحنا أمام زمن "المزاج السلطوي"؟
لقد انتصر "المخزن" (مصطلح معروف في المغرب، ويمكن تشبيهه بالدولة العميقة) في معركته ضد الديمقراطية بذكاء، عندما نجح في إفراغ المحتوى السياسي والشعبي لآخر انتخابات جرت في المغرب، بعد أول حكومة عرفها المغرب منذ الانتخابات التشريعية التي تلت الحراك الشبابي الديمقراطي، الذي شهدته بلادنا، إبان حراك 20 فبراير/شباط، فهو الذي عرف كيف يروض كل الأحزاب، وجرها نحو مستنقع الصراع حول المناصب تارةً، أو إيهامها بترؤس الحكومة بدلاً عن الحزب المتصدر لانتخابات 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما تم إعفاء زعيم الحزب الأول من مهمة تشكيل الحكومة، وهو ما زاد الأمور تعقيدا.
هذا الانتصار اللحظي لبنية السلطوية، تعرض لنكسة بعد صعود حراك اجتماعي بعمق سياسي بالريف (شمال المغرب)، حيث اهتزت أركان الدولة كلها، وتجلى ذلك من خلال الارتباك الواضح في تعامل الدولة مع الحراك، تارةً تتهمه بالانفصال وتارةً تعتذر عن تلك التهمة، وتعلن الهدنة اليوم وتعنف المتظاهرين غداً، لكن في عز هذا الحراك تعرض أكبر حزب سياسي في بلدنا (العدالة والتنمية) إلى أكبر انتكاسة في مساره؛ إذ أصبح بين سندان الخوف من جحيم السلطوية وبين الاختباء وراء حراك الريف حيث يستطيع الاحتماء به لكي يواجه التدخلات السلطوية التي تعترض قراره المستقل، خصوصاً بعد تعرضه لضغوطات من مستويات علّيا.
لقد ساعدت التحولات الإقليمية وصعود ترامب في أميركا، المخزن ليحول في الوقت المناسب كل الأحزاب إلى كراكيز أمام الرأي العام، ويؤكد أنه يتحكم في المشهد السياسي، كما يتحكم في الإعلام والاقتصاد والفن، ويعتبر نفسه جهة فوق الجميع لا تتعرض للمحاسبة، ولا يهمها استمرار الحراك الشعبي بالريف ولا نهايته، ولا يريد حلولاً، إنما يسعى لفرض إرادته وسلطويته على الجميع (حكومة وأحزاباً ومنظمات نقابية..)، فهو يعرف جيداً كيف يدبر الأزمات بالأزمات (هنا للتوضيح فإن بعض الأنظمة الأبوية، كما فصل فيها عبد الله حمودي في إحدى دراساته، تعمل دائماً لمواجهة أزماتها بخلق أزمات داخلية أو خارجية؛ لتوجيه الرأي العام عن التناقض الرئيسي)، كما فعل (أي المخزن) مع حزب البيجيدي، عندما خلق أزمة داخلها، أو كما فعل مع فيديو قائد حراك الريف الزفزافي يظهر فيه شبه عار، لكن كل محاولات شيطنة الحراك فشلت بسبب نضج المجتمع وتفوق وعيه على وعي أجهزة الدولة برمتها، لكن نجحت كل المحاولات التي قزمت من دور الأحزاب وجعلتها كما قلت أعلاه كراكيز بل دكاكين سياسية أمام الرأي العام.
إن حزب العدالة والتنمية اليوم في حاجة ماسة لاسترجاع هيبته، فقد هدمت عملية تشكيل الحكومة الأخيرة رصيده المعنوي لدى المواطنين، خصوصاً بعدما توالت عمليات استصغاره أمام خصومه وحتى أمام الأحزاب المتحالفة معه؛ لذلك فهو يعيش حالة خوف من التحكم، الذي قد يضيق على هذا الحزب، خصوصاً أن عدة مؤشرات تؤكد عدم رغبة الدولة في تواجد هذا الحزب في خانة المزعجين للنظام، وباتت الدلائل تلو الأخرى تشير إلى وجود مساعٍ حثيثة لدى أطراف قوية في الدولة لإبعاد عبد الإله بنكيران، زعيم الحزب الإسلامي.
المعطيات التي نشرت في الصحافة الوطنية والدولية، والتحليلات التي رافقتها، تؤكد أن "البيجيدي"، الذي كان يعول عليه من قبل عدد كبير من المواطنين، لإصلاح أوضاع الإدارة والتعليم والصحة والخدمات العمومية، أصبح فاقداً لقيادة أي مبادرة إصلاحية، بل أصبح أداة في يد النظام يحركه متى يشاء، وخصوصاً أثناء الأزمات.
إن انهزام حزب العدالة والتنمية أمام سلطوية الدولة بهذه البساطة دليل على خوفه الشديد من أي صدام مع الدولة وأجهزتها، بل قام بتنازلات لم يكن أحد يطلب منه ذلك، كما أن "الخوف" الذي يسكن قياداته أجبر هذا الحزب على التراجع على كثير من مواقفه.
إن من دروس شهيد الحرية والاستقلالية المهدي بنبركة، الاقتناع بأن العرض الموضوعي لأخطائنا التاريخية هو السبيل الوحيد لإعداد هذا الجيل لخوض المعارك المستقبلية، وفرض التكوين الأيديولوجي من أجل إعداد هذا الجيل لصراعات المستقبل (هذا ما سعى إليه بنبركة في كتابه الاختيار الثوري)، معرض هذا الكلام هو المقارنة والموازنة بين ماضٍ محترق وحاضر يحتضر.
إسقاط كلام بنبركة على حالة البيجيدي، يوافق طبيعة المرحلة التي يمر منها، ذلك أن هذا الحزب لم يراجع أخطاءه وأصبح فارغاً من ناحية التكوين السياسي، وشبيبته بعيدة كل البعد عن معارك المجتمع، بدورها لا توفر طاقات فكرية قادرة على ممارسة نقد حقيقي للتجربة الإصلاحية بالمغرب، وبالتالي فهذا الحزب يعيش مرحلة الموت الأيديولوجي، وبعدها سينتفي سياسياً ما دام لم يراجع أخطاءه، وما دام يبتعد يوماً بعد يوم عن المجتمع.
الخلاصة: إن حزب العدالة والتنمية يعيش زمن الخوف من الاستئصال المزعوم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.