عيوننا عليك تدمع كلَّ يوم

فبعد أن أحكمتْ إسرائيل قبضتها على مسرى الرسول الكريم، وأولى القِبلتين، وثالث أقدس بقعة على وجه الأرض، أغضبها ما تبقى من أمتار معدودة، ما زال المصلّون يضعون عليها جباههم للصلاة، فآثرتْ إلا أن تصادرها، وتفرض على كل من يتجرأ على الاقتراب من المسجد الأقصى أن يخضع لتفتيشٍ دقيقٍ مذل في أبشع صور إهدار كرامة المواطن الفلسطيني، والعربي بشكل عام.

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/25 الساعة 06:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/25 الساعة 06:37 بتوقيت غرينتش

عيونُنا إليك يا قدسُ ترحلُ كل يوم، كما قالتْ فيروز في مقطوعتها الشهيرة، ويبدو أننا لا نملكُ سوى النظر إليك، والتأملَ في صُوَرك، بقلوب تنزف، وعيون تدمع، بعد أن ضاع كل شيء، وأصبحت الصلاة في كنفك وتحت ظل سلامِك حلماً من الصعب أن يتحقق اليوم، في هذه الظروف القاسية.

فبعد أن أحكمتْ إسرائيل قبضتها على مسرى الرسول الكريم، وأولى القِبلتين، وثالث أقدس بقعة على وجه الأرض، أغضبها ما تبقى من أمتار معدودة، ما زال المصلّون يضعون عليها جباههم للصلاة، فآثرتْ إلا أن تصادرها، وتفرض على كل من يتجرأ على الاقتراب من المسجد الأقصى أن يخضع لتفتيشٍ دقيقٍ مذل في أبشع صور إهدار كرامة المواطن الفلسطيني، والعربي بشكل عام.

وعمّا قريب سيصبح مجرد النظر إلى قبّة الصخرة من أسطح المباني المجاورة أو نوافذها جريمةً يُعاقبُ عليها القانون الإسرائيلي بشدة، بل ستعتقل آلةُ الحرب الإسرائيلية كل مَن يهتف باسم القدس، أو تنطق شفتاه بحروفها، وعمّا قريب كذلك لن يشدَّ حجّاج بيت الله الحرام الرحال إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة إلا بتصاريح دخول إسرائيلية، هذا إن سمحوا لنا بالدخول أصلاً، كيف لا وقد تحولت القدس الشريف إلى رمزٍ للهيمنة الإسرائيلية؟ ففيها البرلمان أو الكنيست، والمحكمة العليا، ومقر رئيس الوزراء، والجامعة العبرية، والدائرة تدور وتتوسع، وبعد أن كان الحجاج يفدون على القدس من كل أقطار الأرض لصلاة ركعتين تبرّكاً بزيارتها ويتجولون في أزقتها المزينة بعبق التاريخ ونقاء الانتماء، يقتنون لأنفسهم ولذويهم تذكاراتٍ للمكان والزمان، أصبح الوافدون إليها من السيّاح الأجانب، يقصدون المُتحف الإسرائيلي أو حديقة الحيوان الكتابية ليستكشفوا في زيارتهم هذه تاريخاً مشوّهاً، وحكايات مُختلقة لا يُحسّونها بقدر ما يَشعرون بحرارة الانتماء العربي للمكان، ويستنشقون نسائمه المقدسية الضاربة في عمق التاريخ والجغرافيا، فالأزقة فلسطينية، والجدران فلسطينية، والأرض كذلك، والسماء تشهد على ذلك.

قد يلجأ البعض إلى البكاء والنحيب، وهو يشاهدُ جروح القدس الغائرة تنزف دماً يوماً بعد يوم، دون أن يُحرّك العاجزون ساكناً، أو ينطقون بكلمة، لكن القدس في الحقيقة هي من تبكي علينا، على حالِنا الذي وصلناه، وذُلّنا الذي شيّدناه بسواعدنا وإرادتنا الكاملة، تَهون عليها مُصيبتها وهي ترى مصائبنا الكبرى تتوالى تباعاً؛ لتنسج خيوطها السامة بيننا، وتتغلغل في شرايين الأمة العربية؛ لتُشتّتها وتُنهك قواها وتجعلها لقمةً سائغة بيد الأعداء، بعد أن أصبح القتلُ من أولى اهتماماتها، وعلى رأس أولوياتها، وبات الطريقَ الأمثلَ لبلوغ الجنة من بابها الواسع، وهكذا فإننا نقتربُ شيئاً فشيئاً بخطوات جريئة نحو العهد الحجري، أو بمعنى آخر نحو التدمير الذاتي، بل سنصير لا محالة إلى عهد أكثر تحجّراً من سابقيه، نهدرُ طاقاتنا هباء في خلافاتٍ تافهة، وننفقُ أموالنا جزافاً على خصومنا؛ لنفتحَ المجال أمامَهم كيْ يُواصلوا مُخطّطاتهم بكل ثباتٍ وثقةٍ في النفس.

حاضرُ القدس يعيش اليوم أحلك فتراته وأصعبها، مع عدوّ غاشم مستبد لا يعرف الرحمة، ولا تُغويه الملايين التي تؤول إليه من طريق آخر غصباً عنا، وحالُنا عامة لا يختلف عنها في شيء، فحين تسعدُ القدسُ يسعدُ العالم العربي، وحين تحزنُ يتفرّقُ الحزنُ على كل رُبوعه، فالقدسُ قطعة منا بمثابة القلب من الجسد، أو النبض من القلب، لن يصلحَ أمرُنا ويستقيمَ حالنا حتى يتحرر آخر شبرٍ منها، فليس أمام قدرة الله مُحال.

بعد أن كانت الدائرة تضيقُ وتتّسع تثورُ وتنكمشُ على طول فتراتِ الصراعِ العربي الإسرائيلي منذ نكبةِ فلسطين، مروراً بنكسة 67، وصولاً إلى تدنيس شارون لباحات المسجد الأقصى، أصبحت اليوم مُتسعةً رحبةً كما لم تكن من قبل، في نفس الوقت الذي تُمنعُ فيه الصلاة ويُحجبُ الأذان وتُدنَّس الأرض الطاهرة بقطعان جنودِ الاحتلال في تضخيمٍ متواصلٍ لحجم التنازلات المريرة، ومع ذلك أصبحت إسرائيل من المُقربين، تنتمي لحلقة الأصدقاء، وشلّة الأحباء، أصحاب الأهداف المشتركة، والمصير الواحد، فنشطت العلاقات العربية – الإسرائيلية حتى انتُزعتْ منها صفةُ العار والدّونية، وأصبح التطبيع الاقتصادي والثقافي على مرأى ومسمع من الجميع، متناسين ما فعله الكيان الصهيوني بنا من تهويدٍ قسريٍّ لمقدساتنا وتنكيلٍ وحشي ومذابح مروعة تشهد عليها كل قطعةٍ من فلسطين السليبة، وبعد أن كان المستشهدون في سبيل الله دفاعاً عن الأقصى يُدْعَونَ بالشهداء وهم أحقّ بها، أصبحوا اليوم يُنعَتون بالقتلى على وسائل إعلامنا العربية، بل ويُتهمون بالإرهاب والعنف، وكأنهم هم الجلاّد وليس الضحيّة، من أجل هذا تبكي علينا القدس، لا على نفسها، وتدمع مآذنها وكنائسُها؛ لأن مدينة السلام لم يَعُدْ يربطها بالسلام رابط، بل انشغلوا بنشره في مكانٍ ما من العالم بالطريقة التي يرَونَها أنفع لمصالحهم، فالأولى أن تُلقَّبَ مدينة الآلام والأحزان، وخذلان الأقرباء والخلان، وآخر معقلٍ لما تبقى لنا من ذرة نخوةٍ وبصيصِ عزّة وكرامة.

طوبى لمن لمستْ جبهتُه ترابَ القدس، وسارت أقدامه بين أزقتها القديمة يُلقي التحيّة والسلام على أسودها ومُرابطيها، طوبى لمن رفعَ يدَه إلى السماء بالدعاء تحت سقف الأقصى، وفاضتْ عينه بالدموع بين مصاحفها ومحرابها، طوبى لمن شدّ الرحال يوماً إليها مُحتسباً صابراً عينُه على مسرى الرسول، وقلبُه يفيض حبّاً وعشقاً لملاقاته، طوبى لمن سالت دِماؤُه وهو يدافع عن حُرمة الأقصى بصدر قوي لا يأبى الرصاص، طوبى لمن ترك أثر خطواته هناك، وقصّ رحلته على أبنائه وأحفاده؛ ليكونوا شاهدين اليوم على زمنٍ أصبح فيه رَفعُ الأذان فوق الأقصى الشريف من أكبر الأمنيات.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد