ماذا فعلت بنا الغُربة؟

ما دفعني للكتابة هنا هو ما يحدث للفرد بعد عودته من البلاد الغربية إلى وطنه، والصدمة التي تحدث له في نظرته لكثير من الممارسات والسلوكيات في مجتمعه.

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/18 الساعة 07:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/18 الساعة 07:13 بتوقيت غرينتش

يبدو أن الفترة التي عشناها في الغرب أثناء دراستها، أو الفترة يضطر آخرون للعيش في تلك البلاد لأي سبب آخر، ثم يعود لبلاده، تجعله يعيش حالة من الاغتراب والصدمة.

وكنت قد قرأت قبل سنوات طويلة حول الصدمة الثقافية الناتجة عن انتقال الإنسان من مجتمعه؛ ليعيش فترة من الوقت في مجتمع آخر، فينشأ عن ذلك انفصال كامل عن ثقافته (وإن كان ما زال يحلم بها في عقله ووجدانه)، والتواجد في بيئة ذات ثقافة مختلفة كلياً عن الثقافة التي نشأ عليها.

هنا تحدث حالة غير عادية، تناولها الكثيرون في الدراسات والأبحاث والمقالات.

لكن ما دفعني للكتابة هنا هو ما يحدث للفرد بعد عودته من البلاد الغربية إلى وطنه، والصدمة التي تحدث له في نظرته لكثير من الممارسات والسلوكيات في مجتمعه.

ولنأخذ على ذلك بعض الأمثلة، لا على سبيل الحصر.
دقة المواعيد، هي من الأمراض التي تعاني منها مجتمعاتنا، مع تفاوت في مدى التزام الفرد بالمواعيد من بلد لآخر، إلا أن الأشخاص الذين يلتزمون بالمواعيد غالباً ما يُنظر إليهم على أنهم خارجون عن التقاليد والعرف السائد.

وتجد عدداً من هؤلاء قضوا سنوات في بلاد الغرب، تعلموا فيها دقة المواعيد وأهمية الالتزام بها. وبالفعل، يشعر هؤلاء بأنهم غرباء في وطنهم وبين أهلهم؛ لأن الوقت لا قيمة له في نظر عدد من الناس. طبعاً هذا الأمر ينسحب على المحاضرات، والاجتماعات، والمؤتمرات، والمواعيد الاجتماعية. ويصبح من العادي جداً أن تنتظر صديقك في مطعم أو مقهى لنصف ساعة أو ساعة، حتى يحضر، ولا يشعر بذرّة ندم أو شعور بالذنب على تأخره، وعلى ذلك قِس..

والأمر يصبح أكثر سوءاً عندما تكون المسألة متعلقة بالمواعيد الرسمية، مثل الاجتماعات والمؤتمرات، فالتأخير، الذي يربك العمل، ويؤدي إلى تأخير الإنجاز، فضلاً عن أنه يجرح مشاعر الشخص الذي التزم بالموعد، يصبح تحصيل حاصل، ولا سبيل للتغلب عليه، وكأنه ثقافة متأصلة.

حينذاك، يشعر الملتزم بالموعد بأنه غريب في وطنه، وأن الفترة التي قضاها في بلاد الغرب قد "خرّبت أخلاقه"، وأصبح يغرد في بلاده خارج السرب.

أما فوضى حركة السير، فحدث ولا حرج، ففي الوقت الذي تسير فيه الحافلات في الدول الغربية، وحتى في بعض الدول العربية، بنظام شديد كعقارب الساعة، تجد في بعض بلادنا الفوضى العارمة وغياب النظام والأخلاق والقانون، وحتى الرقابة، في السياقة، والجميع بالطبع يشتكي من حوادث السير المروعة، وعندما تنصح شخصاً بالالتزام بقوانين السير، ينظر إليك نظرة استهزاء، وكأنك نزلت من المريخ.

وفي هذه الحالات تجد الشخص الذي يقطع الإشارة الحمراء يبدو وكأنه لم يرتكب خطأ، والشخص الذي يركن سيارته بشكل فوضوي، ويعطل السير، أو يمنع السيارات الأخرى من المرور، وكأنه لم يرتكب جريمة بحق الآخرين، هذا فضلاً عن أبواق السيارات التي تتسبب بإزعاج للناس في الليل والنهار، دون أدنى اعتبار لأخلاق أو حتى مشاعر إنسانية، وتجد الكثير ممن يبررون مثل هذه الأمور، ويقولون لك: كل الناس بيعملوا هيك، وقفت علي؟ أنت بدك تغير البلد؟ وهنا، تجد نفس النظرة، وكأنك شخص قادم من الفضاء.

وعلى سيرة أبواق السيارات (الزوامير)، تجد فوضى الإزعاج عامة وطامة، أكتب الآن هذه السطور وأصوات المفرقعات في مدينة نابلس في فلسطين منذ يوم أمس، بمناسبة إعلان نتائج الثانوية العامة (التوجيهي) بشكل لا يطاق، وقبل لحظات فقط، كان إطلاق نار كثيف.

ومنذ فترة وأنا أبحث عن إجابة على السؤال التالي: كيف يؤدي إطلاق المفرقعات والألعاب النارية إلى حدوث السعادة لدى الناس؟ علما بأن تكاليف مثل هذه المفرقعات تصل إلى مئات الدولارات للفرد الواحد، يقوم بحرقها خلال ثوان، طبعاً في ظل واقع اقتصادي في الحضيض، والأنكى من ذلك، حسب ما علمت، أن غالبية أصحاب المفرقعات هم ممن نجحوا بمعدلات منخفضة جداً، في حين أن المتفوقين لم يحتفلوا بهذه الطريقة اللاحضارية.
هل نتحدث أيضاً عن الالتزام بالدور في الوقوف أمام الحافلات وفي البنوك وعلى شبابيك المعاملات الرسمية، وقيام كل شخص بالبحث عن الواسطة؛ لكي يأخذ دور غيره؟ أم نتحدث عن غياب المعايير في التعيينات في الوظائف، والترقيات في المناصب، والمحسوبيات وربما الرشاوى؟ أم هل نتحدث عن الأدب في التعامل مع الآخرين، والتوقف عن النفاق، الذي نسميه مجاملات؟ هل نتحدث عن ظواهر التسول، وعربات البيع المتجولة، والأرصفة التي تكتظ ببضائع المحلات التجارية التي تعرقل حركة السير على الأرصفة؟ هل نتحدث عن غياب دور الشرطة في ضبط البلاد؟ أم نتحدث عن غياب الديمقراطية؟ أم نتحدث عن تخلف واقع التعليم والصحة والرفاه الاجتماعي؟

ربما، قلت ربما، فعلت الغربة بنا خيراً بأن خرجنا من واقع أليم لكي ندركه من زاوية مختلفة، وبشكل أكثر نضجاً ووعياً. وربما فعلت الغربة بنا شراً بأن جعلتنا غرباء في أوطاننا، وكأننا كائنات فضائية هبطت فجأة على الأرض، فوجدت عالماً غريباً عصياً على الإصلاح.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد