كانت بداية حراك الريف مأساوية للغاية مع مقتل بائع السمك "محسن فكري" مفروماً مع بضاعته بماكينة شحن للأزبال على مرأى ومسمع الكثيرين ممن شاهدوا الواقعة بالشارع العام.
شكلت هذه الحادثة التراجيدية صدمة هزت سكان مدينة الحسيمة، ومنطقة الريف قاطبة، وفتحت بصائرهم على حجم الحيف، والحكرة، والإقصاء الممنهج الذي يقبعون تحت وطأته ردحاً من الزمن.
من الجدير بالذكر أن مقتل فكري لم يكن قدراً منزلاً أصاب صاحبه لاستغلاله بعد ذلك ميدانياً عبر تفجير مسيرات احتجاجية عارمة، بل هو في جوهره نتيجة لأسباب مادية وتاريخية لواقع من التهميش، و"الحكرة"، والفساد، والريع أفقر الريف وعطل شبابه وهمّش معدميه وسلبهم كرامتهم وحقوقهم في التعليم والصحة والشغل، وهو الواقع الذي كرسته سياسات النظام الفاشلة عقوداً من الدهر.
أمام هذا الواقع المادي التاريخي، كان مقتل فكري الصدفة المحكومة بمنطق الضرورة التاريخية، حسب التعبير الماركسي، التي فجرت مسيرات شعبية غاضبة ضد هذا الواقع المزري الذي لم يكن فكري ضحيته الأولى أو الوحيدة في الريف وهوامش المغرب، بل شبابه المعطلون، وفقراؤه المهمشون، وكادحوه المحرومون، ومسلبو أبسط الحقوق، هؤلاء جميعاً ضحاياه ومعذبوه على السواء، كان مقتل فكري الحادثة التي تتحينها الضرورة التاريخية لانتفاضة جماهير المضطهدين والمعذبين ضد هذا الواقع المكرس سياسياً واقتصادياً من لدن النظام.
لا يمكن فهم حادثة مقتل فكري وما ترتب عنها من احتجاجات شعبية عارمة إلا في إطارها التاريخي ومسبباتها المادية، مما يدفعنا دفعاً إلى الجزم بأن كل محاولة لتحجيم حادثة مقتل فكري من خلال فصلها عن واقعها المادي، وهو واقع أغلب سكان الريف وجل فقراء المغرب عموماً، واعتبارها حادثة مقدرة على صاحبها لا ينبغي استثمارها ميدانياً للاحتجاج، هو تمويه سياسي يريد بذلك كله تأبيد واقع الأمور والحلول دون أن يتحول "البكاء الجنائزي" الجماعي لمقتل فكري إلى تظاهر احتجاجي جماعي ضد هذا الواقع المادي الذي مرغ كرامة فكري في حاوية الأزبال، وجرد فقراء الريف من كرامتهم واستباح حقوقهم وحرياتهم.
بعض الجثث، يقول فتحي المسكيني، يمكن أن تتحول إلى نص أو شفرة سياسية تزعج الدولة، وفي مشهد يذكرنا بسيناريو البوعزيزي بتونس، تلقف سكان الريف الرسالة فخرجوا في مسيرات مهيبة تندد بالتهميش، والإقصاء، والفساد، وتطالب بالكرامة والتوزيع العادل للثروات، والحق في التشغيل، والتطبيب والتعليم، صار كل المحتجين بشوارع وساحات الريف المهمش يحمل طيف "محسن فكري"، الذي يزعج الدولة؛ لينقل صدى شعارات مسيراتهم إلى دواليب الحكم والسلطة بالمركز: "كلْنا كلْنا محسنْ، غير طحنونا كاملينْ/ محسن ماتْ مقتولْ، والمخزن هو المسؤولْ".
تواترت الاحتجاجات بشكل أسبوعي وسرعان ما تجذرت واتسعت رقعتها؛ لتشمل جل مناطق الريف لتصير حراكاً شعبياً جماهيرياً بقيادة تنظيمية بارزة وملف مطلبي اجتماعي واقتصادي.
في البدء، كان تعنت الدولة -كعادتها- السمة الطاغية على المشهد، ثم ماطلت بعد ذلك في الاستجابة لمطالب الريف، خاصة أن المغرب كان يعرف حالة فراغ حكومي دامت ستة أشهر بعد الانتخابات التشريعية في أكتوبر/تشرين الأول 2016، في حين كانت مؤسسات الدولة التقليدية (المخزن) مشغولة بعرقلة مسار تشكيل الحكومة الذي انتهى بانقلاب ناعم على نتائج الانتخابات، حال دون تمكين عبد الإله بنكيران من ولاية ثانية لرئاسة الحكومة، وانتهى بتشكيل حكومة حصة الأسد فيها للأحزاب الإدارية والتكنوقراط، بينما بقي حزب العدالة والتنمية -المتصدر بأغلبية في الانتخابات- الحلقة الأضعف في تشكيلتها الهجينة.
في سياق هذا الجو غير الديمقراطي، زاد الوضع احتقاناً بمنطقة الريف ولم يعد المحتجون يرون عن غير الشارع بديلاً لتحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية هي من أبسط الحقوق التي سُلبت منهم منذ عقود.
زِد على ذلك أن أكثر شيء أزعج المخزن حد الارتباك، وهو من كان يحسب أن تجاهل أصوات الريف الغاضبة كفيل بإخماد الحراك واستنزافه، وأن نضالهم ستبهت شعلته في الضلوع إذا ما توالت عليه الفصول، هو أن حراك الريف السلمي، رغم محاولات اختراقه، ظلت تتوهج شعلته يوماً بعد يوم ليأخذ منحى تصاعدياً مع مرور الوقت حتى أصبحت تتسع رقعة انتشاره ويزيد حجم مسيراته ويعلو سقف مطالبه؛ ليجد تضامناً واسعاً من العديد من مراكز المغرب والهوامش.
خلال مرحلة "البلوكاج الحكومي"، وجد المخزن نفسه وجهاً لوجه أمام احتجاجات الريف التي كانت تتوجه بمطالب سكانها مباشرة للمؤسسة الملكية، كونها الفاعل الأساسي في النسق السياسي المغربي والوحيدة القادرة على تنفيذ مطالبهم، بينما ظلت الاحتجاجات ترفض تدخلات الأحزاب السياسية، التي لا يزيد حجمها عن كومبارس يتحرك بإشارة من المخزن، بل وصفت مراراً وتكراراً من لدن قادة الحراك بـ"الدكاكين السياسية" والأداة الطيعة في يد المخزن يدبر بها بدهاء الأزمات الاجتماعية المماثلة عن بعد.
لا عجب أن تفقد الأحزاب السياسية والهيئات النقابية والمجتمع المدني شرعيتها في الشارع، وهي التي ظلت سهلة القياد تتزلف للمخزن وسلطته تقرباً، وكلما تقربت من مراكز السلطة الفعلية شبراً ابتعدت عن قواعد الجماهير باعاً، إلى أن أصبحت من دون أدنى مصداقية في الشارع.
خلاصة القول في هذا الباب أن قادة الحراك، على بساطة تكوينهم العلمي وخلفياتهم السياسية، أدركوا جيداً بنية وعلاقات السلطة بالمغرب في جوهرها، وما الأحزاب السياسية سوى قناع مكشوف لمن يملكون السلطة، ومَن لهم حق اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية.
بعد أن خاب ظن السلطة في تعويلها على النيل من الحراك بعاملي الوقت والمماطلة، كشفت رغبتها في تفضيل الخيار الأمني لإنهاء كابوس الحراك بعد شن حملة إعلامية تقودها أجهزة الدولة الأيديولوجية (خطاب الأحزاب المشكلة للحكومة، والقنوات العمومية، والصحف الإخبارية المقربة من السلطة..) تتهم حراك الريف بالعمالة، والانفصال، وخدمة أجندات خارجية، وتلقّي تمويلات أجنبية، وزرع الفتنة، والمساس بثوابت الدولة، وتهديد استقرار المغرب الذي ظلت تروج له السلطة بتبجح "كاستثناء" في منطقة عصفت بأنظمتها ثورات وانتفاضات الربيع العربي.
ومما لا شك فيه بعد أن اتضحت الصورة لحد ما، أن هذه الحملة الإعلامية لم تكن إلا حملة أيديولوجية تؤلب الرأي العام وتوطّئ، كما هو الحال، لقمع احتجاجات الريف وشرعنة سيناريو بوليسي مهول من الاعتقالات والاختطافات التي طالت في ما بعد المحتجين، تحت ذريعة التهم الموكلة لهم السالفة الذكر، والذين وصل عددهم اليوم، بحسب الناطق الرسمي للحكومة، إلى 176 معتقلاً و63 متابعاً في حالة سراح.
المفارقة المحرجة في خطاب السلطة بشأن حراك الريف رغم تراجعها عن لغة التخوين ووصف مطالب الحراك بالمشروعة والمستحقة، ما زالت تتجاوب معه بمنطق القمع والاعتقال والمحاكمات السياسية، ضاربة بعرض الحائط حقَّهم القانوني، والمكفول دستورياً، في التظاهر السلمي وممعنةً في إذلال كرامتهم، التي ما خرجوا للشارع إلا لاسترجاع بعض مما أهدر منها، حتى إنهم لم يسلموا من القمع المفرط والاعتقال بالعشرات عشية عيد الفطر.
ما زالت السلطة اليوم، وبعد ما يزيد عن ثمانية أشهر من انطلاق حراك الريف، تتعامل مع الاحتجاجات بمنطق المقاربة الأمنية البوليسية المتجلية في القمع المتزايد للمسيرات والوقفات، ورفض إطلاق سراح المعتقلين، وتلفيق التهم الثقيلة لهم، حتى وإن أقرت بمشروعية مطالبهم.
ولعل آخرها كان نسف أجهزة الأمن البارحة وقفة نسائية أمام البرلمان تنادي بإطلاق سراح معتقلي الريف، مما يؤكد بالملموس المادي أن السلطة المركزية لا تبتغي حلاً سياسياً يستجيب لمطالب الحراك، بل يدل كل هذا على وهم البروباغندا الإعلامية التي تصور المغرب "كاستثناء" في المنطقة العربية، وزعم السلطة أنها تتجاوب مع الاحتجاجات بمنطق العقلانية والحوار والإيجابية لا القمع والعنف.
المستخلص من حراك الريف الشعبي هو أن المخزن لم يعتبر بعد من درس الربيع العربي المتكرر في أكثر من دولة، أن المقاربة الأمنية لا تخمد فكرة إنما توقدها، ولا تغير الوضع القائم إنما ترفع من درجة احتقانه؛ ليأخذ مساراً لا يمكن توقعه، وقد ينفلت من يد السلطة في أي لحظة.
كما أن القمع المتزايد بالريف، قد يشحن ذاكرة أهاليه بالمزيد من الحقد، وألا ثقة في النظام السياسي المغربي كلياً، مما قد يشكل ذخيرة حية قد تسهم في إذكاء انتفاضات أكثر راديكالية في القادم من السنوات، لا سيما أن العديد من المحتجين قد فقدوا الأمل في الإصلاح من داخل المؤسسات، وتيقنوا من أن الانتخابات لم تعد المدخل الفعلي لتغيير واقعهم المتردي، وأن النظام السياسي في بنيته الحالية لا يملك أدنى رغبة في الإصلاح أو التغيير.
في تقديرنا الخاص، لا مجال للمخزن، في ظل هذه الاحتجاجات المتزايدة، أن يلتف عليها بحلول تنموية ترقيعية لا تعالج صلب الأزمة، وإنما تعالج قشورها، رغم أن المخزن -كما تعود دوماً- يعتمد عليها لربح مزيد من الوقت، ويتحايل بها من أجل تأبيد الوضع الراهن للسلطة، وبنياتها على ما هي عليه.
ومع ذلك نقول: إن هذه الحلول لن تطفئ اللهيب المشتعل تحت الرماد الذي قد يتقد من جديد أمام أي هبة احتجاجية مقبلة.
من الواجب على السلطة، إن أرادت أن تضع حداً للاحتقان المتصاعد، أن تعالج مشاكل الريف، وكل هوامش المغرب، في صلبها، وذلك بتغيير هيكلة وبنية النظام السياسي الحالي، وإرساء الديمقراطية الحقيقية، وإشراك المؤسسات المنتخبة ديمقراطياً في تسيير الشأن العام دونما أمر أو توجيه من الدولة العميقة، وتمكين المواطنين من حرياتهم، وإقامة فصل واضح للسلطات حتى لا تظل محتكرة في يد الملك، ومحاربة الفساد الذي يجري في دواليب الدولة مجرى الدم، ويعرقل كل محاولات الإصلاح، وترسيخ العدالة الاجتماعية عبر التوزيع العادل للثروات، حتى يصل لمحرومي المغرب وفقرائه حقهم ونصيبهم.
من دون شك، حتى يكون التغيير بنيوياً والإصلاح جوهرياً لا ترقيعياً، لا بد من تغيير هيكلي في بنية النظام وإلا لن يزيد الوضع إلا تدهوراً.
ونقول أيضاً: إن ما يضمن للمغرب استقراره الحقيقي وما يعطي للدولة هيبتها المستحقة هو الإصلاح الجوهري والتغيير الفعلي ولا شيء دون ذلك.
لكن ما دامت كل البوادر اليوم تشير إلى عدم رغبة المخزن في الاستجابة لمطالب الاحتجاجات بوضع البلد في السكة الصحيحة التي تقود إلى تحسين معيشة ورفاهية المواطنين والحفاظ على كرامتهم وحقوقهم، حق لنا أن نتساءل: إلى أي هاوية رحبة يقود المخزن البلاد؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.