الشعور الذي لا تستطيع كتابته هو الشعور الذي يأتيك دون قدرة منك على تقبله، شعور خانق إلى أبعد حد، أحاول منذ أيام لملمة كلماتي والإمساك بقلمي للكتابة حول ماهية قرار سلطة رام الله قطع مخصصات استحقاقية لأسرى ومحررين، والتهمة انتماؤهم السياسي الذي عاقبهم عليه الاحتلال، والتهمة أنهم ناضلوا من أجل الوطن والقضية، وحاكمهم على نضالهم المشرف الاحتلال الإسرائيلي.
يوم الجمعة، في ساعات الصباح الباكر، مررت بخيمة اعتصام الأسرى في يومهم الـ20، ربما لم أرَ تفاصيل رصيف المدينة بهذا العمق من قبل، رصيف مدينة رام الله الذي يفترشه الأسرى المحررون معتصمين رفضاً لقرار تجويعهم، مساحة تشبه تماماً مساحة زنازين الاحتلال التي أكلت من أجسادهم سنوات طوالاً، مساحة لا تشبه القصور العاجية التي ينام فيها المسؤولون عن تجويعهم، مساحة بات لها في مفهومي قداسة ما، قداسة شرف أو عزّ وفخر، أو ربما قداسة غرباء بكل ما للمصطلح من معنى، غرباء عنا في التضحية والصبر والتجلد على الألم، غرباء عنا في مواصلة إيمانهم بأن التضحية واجبة لا منّة على الوطن، غرباء في أنهم يجلدون من بني جلدتهم وما زالوا يتحدثون عن الوحدة الوطنية، غرباء في أنهم يحاكمون على يد وطنهم، وهم يوماً ما أرخصوا أرواحهم له.
خيمة الاعتصام تلك تتجسد في أسرى محررين جاءوا يدافعون عن قضية، وليس عن مخصص مالي يعول أسرهم، هم جاءوا ليدافعوا عن خطوات قادمة ستشهدها الساحة الفلسطينية تتجسد في حل كامل لكل هيئة أو مؤسسة تعمل لصالح قضية الأسرى، مع قطع مخصصات مالية لآلاف الأسرى، وتحويل ملفاتهم إلى ملفات "أفراد نفذوا العنف والإرهاب ضد دولة إسرائيل"، فضمناً يُدرجون على مفهوم "الإرهاب" وفق ما طالب به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وبتوافق مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ضمن خطة أميركية إسرائيلية لتصفية كاملة لمفاهيم مقدسة لدى الشعب الفلسطيني، فبعد أن وُصفت عمليات فدائية بأنها "انتحارية وإرهابية" على ألسنة مسؤولين سياسيين فلسطينيين، للتقليل من قيمة المقاومة والشهداء، اليوم ينفذون حملة تشويه للأسرى والمحررين؛ ليوصلونا إلى رؤيتهم بأنهم عالة على المجتمع الفلسطيني، وبسببهم نحن أبعد عن خرافة السلام، قاتل الله سلامهم، وكل مَن يؤمن به.
أواصل مروري بالخيمة، ولا أفطن إلا للذاكرة التي لا تجعلهم ينامون ليلهم كمحررين يعتصمون، أو كأسرى ما زالوا في سجون الاحتلال، جل تفكيرهم كيف ستتدبر عوائلنا أحوالها المادية في ظل هبوط مجتمعي حاد تجاه قضيتهم، ربما الأشد فتكاً هي الذاكرة التي تعود بهم إلى الماضي، يوم أن كان للمقاومين هالة قداسة، وللأسرى هالة فخر واحترام وتعاون، يوم أن كان الشعب يعطف على عوائل الأسرى ويشد عضدهم، واليوم باتوا ينامون على رصيف المدينة وحدهم، ونحن خذلناهم في الدفاع عن حقهم المشروع، فباتوا كالأيتام على مائدة لئام، ألا لعنة الله على خذلاننا وصمتنا وضعفنا.
تحدثني زوجة أسير من جنين، أن زوجها طلب منها عرض منزلهم للبيع لتتمكن من إعالة نفسها وطفلتيها، فيما لا زال يقبع زوجها في سجون الاحتلال، والآن يطلب من عائلته أيضاً أن تحمل على عاتقها تكاليف زيارته في سجنه وإدخال الملابس والاحتياجات المالية له، حاولت زوجة الأسير إيصال رسالتها لي، ولكن الغصة التي تملأ جوفها ربما أقوى من أن تسمح لها بالحديث عن سقوط كامل لقيم وضمائر المسؤولين، ولضعف شديد، وموت بطيء للشعب الذي يسكت أمام قرارات وقحة، ويسمح للسلطة الفلسطينية بتمرير قراراتها المجحفة.
لا أبالغ إن قلت إن ما نحياه اليوم -خاصة في الضفة المحتلة- هو احتلال داخلي يوازي الاحتلال الصهيوني لنا، بل أشد فتكاً في أدواته، فالوطن الحصين لا يُهزم إلا إن ضُرب من الداخل، ووطننا لم يهزم فحسب، بل أصبح قضية تجارة، فعلى أي فاجعة سياسية أخلاقية قيمية سنستيقظ غداً؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.