بدايةً نقول إن هذا المؤتمر هو الأول لسنَّة العراق في ظل الوضع الداخلي المعقد، ولا يمكن أن يشكل تهديداً للبيت السياسي الشيعي، ولا للبيت السياسي الكردي، من خلال عبارات مستهلكة، من قبيل "الإقليم السني"، أو "التقسيم"، أو "إحلال ساسة المنصات والفنادق محل ساسة الداخل والموالاة للبيت الشيعي"، وغير ذلك من العبارات المستهلكة، فجميع هذه القوى والمناطق سوف تكون متفاعلة بصورة ديناميكية بحكم الجغرافية الانتخابيّة والتوزيع السكاني والديموغرافي.
وحتى نستوعب حركة الجغرافيا السياسية السُّنّية؛ لنفكر بلغة التصنيف بحسب الأوزان، فالأحزاب والحركات هي (القوى الكبرى)، والعشائر والمعارضة والمسلحين هي (القوى الصغرى)، والمجتمع السُّني المستقل الإسلامي واللاديني (القوى الواقفة والمحايدة).
لكن ينبغي ألا نتجاهل أيضاً المشتركات العشائرية والقومية بين السُّنَّة والشيعة والكرد والتركمان (القوة النافرة)، التي لا يمكن أن تسبب اضطراباتٍ خطيرة في الديموغرافية السياسية السُّنية بسبب ضعف الحافز القومي في هذه المرحلة من تاريخ سُنة العراق.
فكل مشكلة يواجهها العراق بدون إشراك السُّنة لها انعكاساتها على الدولة العراقية بأكملها، وتتطلب منا استجابات سريعة وحلولاً شاملة في ذات الوقت، وهذا ما أدركته المرجعية في النجف في وقت مبكر، ولذلك دعت لضرورة مشاركة السُّنة كحجر زاوية في العملية السياسية والإدارة الحكومية، وكذلك أحسنت توظيف ذلك المخابرات الإقليمية المنتفعة من ضعف الدولة العراقية، فتارةً تستبعد السُّنّة وتارةً أخرى تحاول فرضهم كجزء من الحل.
والعصبية السياسية الطائفية والقومية أوقعت العراق في شَرَك الاعتقاد بأن الطائفة الشيعية والقومية الكردية في عهد حكم الطائفة السُّنية أيام البعث كانوا مضطهدين مهددين سياسياً، وبالتالي لا يمكن إعطاء السُّنة الفرصة لكي يستعيدوا دورهم القيادي والسياسي كما كانوا أيام حكم البعث.
ويظل تهديد المسلحين السُّنة للشيعة وحلفائهم والكرد وحلفائهم من أكثر التحديات شمولية وإقليمية، فمع احتلال داعش لثلث العراق الذي أصاب معظم الجغرافيا السُّنية في العراق، صار أحد أهم أهداف استراتيجية مكافحة داعش تحفيز السُّنة لتعزيز الأمن المجتمعي والاستقرار من خلال برامج ومؤتمرات المصالحة المجتمعية الدولية والإقليمية والوطنية، وذلك بمثابة ترياق يراد به وقف استنزاف الدولة العراقية.
وقد تمّت حماية المعارضة السُّنية حلفاء الخليج وأميركا، الذين يتمتعون بالقوة السياسية والشعبيّة مثل العيساوي والخنجر وأثيل النجيفي، وذلك بسبب الصغط الكبير من قِبَل الدول الإقليمية والمنظمات الدولية وتوصيات مراكز الدراسات، وفرض مشاركتهم بمؤتمر السُّنة في بغداد.
أوضحت الحرب على داعش تغيّر الاستراتيجية الحكومية "حكومة العبادي" تجاه المعارضة السُّنية ذات البعدين الحزبي والعشائري، وقد عجلت الانتصارات على داعش من حدوث ذلك التغيير، وتوجه العبادي بنفسه إلى التكيّف مع مشاريع المنطقة العربية، دون الصدام مع إيران وحلفائها في الداخل العراقي.
وسوف تتمكن حكومة العبادي من المضي قدماً في المزج بين أسلوبها المحايد الجديد والسياسات المفاجئة لمكونات البيت السياسي الشيعي.
في هذه الأثناء سوف يرحب التيار الصدري بهذه المؤتمرات التي تنظم داخل العراق، بينما يزداد رفض الأحزاب الشيعية من جانب عدم قبولهم للمصالحة مع المعارضة السُّنية المطلوبة قضائياً، وسوف يتمخض هذا الأمر بالتأكيد عن تحكم أكبر للإيرانيين لعرقلة هذه المقاربات التي قد تصنع للسُّنة رمزية موحدة نسبياً، يجلب للدولة العراقية الاستقرار بعد 14 سنة من التمرد والخصومات والصراع، وموازنة استعراض القوة من جانب المسلحين الشيعة والكرد، بالإضافة إلى تأمين الأمن والاستقرار من جانب السُّنة.
وما زال الجدل دائراً هذه الأيام حول ما إذا وجدت هيئة سياسية سُنية موحدة مجرد ارتجافة أم أنها هزّة سياسية يقلق منها الكرد والشيعة.
فبينما تعترف القوى السنية الكبيرة باللهجة الجديدة التي تتبنّاها إدارة ترامب حول قضايا شائكة مثل فرض الحصار والعقوبات على إيران وحلفائها في سورية وتجريم بعضهم بالإرهاب، هي تدرك أن إيران في العراق أقوى سياسياً وجماهيرياً من أميركا وحلفائها الإقليميين.
وبالرغم من الحذر الشديد الذي تتسم به القوى السُّنية التي أصبحت مهتزة الأركان ومشتتة؛ كونها بلا قيادة أو قضية موحدة، يواصل الاضطراب في البيتين السياسيين الشيعي والكردي تدهورهما الحثيث إلى الأمام على نحو خطير؛ حيث أصبحت العلاقة داخل كل بيت منهما تقوم على مبدأ إدارة الأزمات مع السُّنة بشكل فردي، ومحاولة تعزيز السلطة الحزبية والعسكرية وزيادة المكتسبات الماليّة الخاصة على حساب وحدة البيت السياسي، وابتعادها عن تحقيق رؤية استراتيجية موحدة وواضحة للمستقبل، وسوف تستمر المشاحنات الدائمة بين الأحزاب في البيتين الشيعي والكردي، ولكن للمرة الأولى في مرحلة ما بعد 2003 لم يعد البيت السياسي الكردي منقسماً حول جمع شتات الأحزاب السُّنية والحوار مع بغداد.
وحتى ينجح مؤتمر السُّنة في بغداد يجب أن تكون المقدمة قبول المؤثر الأميركي والملزم الإيراني، ولكن هذه المقدمة لا يمكن أن تعطي تأكيداً لنجاح المؤتمر بدون وجود مقبولية من الدول الإقليمية السعودية وتركيا، ويعتبر انعقاد مؤتمر السنة في بغداد واحداً من أهم المتغيرات على الساحة السياسية العراقية بعد 2003.
وسوف تكون نتيجته ذات تأثير مباشر على مستقبل وسير التفاهمات بين السنة والشيعة والسنة والكرد، بطرق ليس من المرجح أن تكون واضحة أو يسهل تبسيط تعقيداتها، وإذا كتب لهذا المؤتمر النجاح بفترة رئاسة الدكتور سليم الجبوري، فقد يدعم هذا تقارب السنة مع دولة القانون، وسيخفف أيضاً من حاجة المجتمع السني الملحَّة إلى رمزية سياسية للتعامل مع الشيعة والكرد.
وبغض النظر عمن يترأس الرمزية والزعامة السنية في مؤتمرات صناعة الرمزية السياسية السنية سوف تجد القيادتان الشيعية والكردية أن الاتفاق على هيئة سياسية سُنية موحدة نسبياً في حد ذاته ليس حلاً سحرياً للخلافات بينهما، فقد فشلت كل المحاولات السابقة للتواصل بين القادة الكرد والشيعة نتيجة للمصالح المتناقضة والفرص الضائعة من الجانبين، وقد يشهد الزمن القادم سجلاً قياسياً في تغير السياسي الكردي – الشيعي نحو الأسوأ، وسيظل أمامهما تاريخ من 35 عاماً من المشتركات والصداقات ينبغي عدم نسيانه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.