قد أكون تردَّدتُ قبيل كتابة هذه الكلمات الصارخة والجارفة، ربما لمصير علاقات شخصية وصداقات عمرها سنوات، لكنها قد تكون لزوم ما يلزم في تعريف فئة جديدة من تصنيفات المجتمع العربي والإسلامي، فئة من البشر تعيش بيننا ويتعاظم أثرها حولنا دون شعور منا، ليس لمتانة ما تحمله من قيم وأفكار، لا، بل لعالمٍ فَتَحَ لهؤلاء أبوابَ الدعم على مصاريعها في زمن الثورات المضادة التي حصدت آلاف القتلى والمشرَّدين حول العالم.
لا أبالغ حين أقول إن حلف أبوظبي، الذي يعمل ليل نهار لعودة النظام السياسي في العالم العربي إلى علاقة السيد والعبد بالتوازي مع خطاب ديني جديد، يسعى لإبراز تيار فكري حداثي بالشكل، لكنه في المضمون تيار خاوٍ من المفاهيم والقيم، تحت شعارات الإصلاح والتجديد والتغيير، ولمواجهة التيار التقليدي الديني، المتمثل بإسلاميي الربيع العربي، ومن ركب معهم في السفينة، فظهرت علينا في بداية الحراك العربي شخصيات عديدة، أمثال بن بيه، وعدنان إبراهيم، وغيرهما ممن تأثرنا بخطابهم وأفكارهم لبرهة من الزمن، وكنا أول المدافعين عن توجهاتهم وما يتم طرحه، على الرغم من الرفض العارم لتلك المعتقدات من قبل جمهور واسع من علماء وأئمة الشعوب نفسها، في الحين نفسه وجدت أفكار هؤلاء رواجاً كبيراً لدى شريحة من الشباب الذي عانى ويعاني من جمود مشايخ وعلماء التقليد، الذين عطَّلوا العقول وقدسوا النصوص لعقود طويلة.
لكن الحكمة في انتقاد صنف الناس هذا ليس برفضهم لمظاهر الجمود والانغلاق والرفض لتحويل رجال الدين إلى كهان تعبد بعد الله وتقدس كلماتها ومواعظها، الحكمة هنا تكمن بسقطات هذا الفريق من الناس عند كل نازلة أو مصيبة تصيب عالمنا العربي.
وأذكر تماماً تناقضات هذا الفريق يوم انتخابات الرئاسة المصرية عام 2012، حينما نظر هؤلاء لشهور لضرورة دعم مشروع أبو الفتوح وبرنامجه في الترشح للرئاسة، ورفض الذهاب "لأخونة" الدولة، أو إعطائها صبغة الحاكم الفرد الحاكم بالإسلام والشريعة، لكن هؤلاء لم يكلفوا خاطرهم بقراءة برنامج مرسي الانتخابي يومها، والاطلاع على مشروع الإخوان للرئاسة، الذي لا يختلف كثيراً عن برنامج أبو الفتوح "الإخواني السابق"، لكن عقدة مخالفة الجماهير وإن كانت على حق باتت الأهم لهؤلاء "المتفهمنين"، كما يُطلق عليهم صديقي أستاذ علوم الحياة، الذي يقصد بهم مدعي الفهم من دون الناس.
السقطات لم تنته هنا، فليتها تنتهي عند هذا الحد، لكنها استمرت إلى حكم مرسي والتطبيل والتزمير للمعارضين له، عبر شاشات التلفزة ومواقع التواصل، والترويج المنقطع النظير لحلقات باسم يوسف، وسخريته من رئيس مدني انتُخب لأول مرة بأصوات الشعب، دون تزوير أو تبخير أو رقص على أبواب أقلام الاقتراع.
وبدت الفضيحة الأخلاقية الكبرى عند سقوط حكم الإخوان، والمجيء بحاكم عسكري تُرافقه آلة إعلامية تافهة، ودبابات وطائرات قرَّرت إقصاء حكام الأمس، ومعارضي اليوم، وجرفهم في شوارع وساحات القاهرة، وحرقهم على مرأى العالم أجمع، يومها خرج علينا مشايخ الحداثة، وأساتذة "المتفهمنين الجدد"؛ ليقنعوا عقولنا أن المقتول هو القاتل، والقاتل هو حامي الشرعية والتعددية والتشاركية، وأن أخونة الدولة الممتدة من القاهرة وحتى أنقرة ستفتعل الحروبَ العبثية، وتجرُّ علينا الويل والثبور وعظائم الأمور، وكأن الاستبداد وحكم ولي عهد أبوظبي الغارق في قمع حريات الشعوب ودفع أموال العرب لتدمير المنظومة الأخلاقية والقيمية أكثر عدلاً، وكأن أيضاً بناء الأبراج وإطلاق المفرقعات وإعداد أكبر صحون الطعام سيعيد الحضارة، ويبني دول التحضر.
السقطات تتراكم من حرب غزة والتهجم على المقاومة، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وإقناع أنفسهم ومَن حولهم أن التخلص من أردوغان الديكتاتور القابع على صلاحيات الحكم، وأحلام إعادة إمبراطورية الترك هي حبل النجاة لتوازن الحياة وإعادة تشكيل الصورة العادلة للمنطقة المشتعلة.
وأخيراً رأي هؤلاء في حصار قطر، والسير في ترويج دول الحصار أن قطر تمول الإرهاب، وتؤوي المجرمين، وتغطي المرتكبين، دون أن يتذكر فريق "خالِف تُعرَف" هذا، أن حكام أبوظبي موَّلوا السيسي، وأغدقوا المال على حفتر، وأطلقوا العنان لدحلان في التخطيط لحرق الشعوب وصمتوا عن جرائم الأسد ودعموا عبد الله صالح وغيره من مستبدي القرن العشرين والقرن الذي يليه .
أَنَسِيَ المتفهمنون الجدد، الذي بدأ عصرهم الذهبي الآن، أن الإرهاب الذي صنَّفته دول الحصار اليوم كان في الأمس قمة الوسطية والاعتدال والانفتاح وفق مقاربة تلك الأيام؟ أم أنهم مع المخالفين من المجرمين، أينما داروا يدورون.
نعم وألف نعم، يُسجَّل لحكام أبوظبي وفلاسفة السيسي وراقصي الساحات، أنهم استطاعوا إنتاج تيار تافه من النخب الساقطة في بلادنا، همها الأساسي مخالفة الناس ولو كانوا على الحق.
لم أكتب اليوم لأُذكِّر الناس بسقطات أتباع مشايخ دول السلطان ودول الحصار الغارقين بأكل خبز السطان والمتعطشين للضرب بسيفه، لكنها إضاءة صغيرة على تناقضات مجتمعاتنا وهشاشة القيم عند البعض، والقول دون الخوف أن حماقة وتراجع الفكر عند شيوخ التقليد لا يعنيان الانجرار وتقديس شيوخ الحداثة.
ونسألكم كما سئُل الدكتور معتز الخطيب: ما جدوى تحرير الإنسان من التراث في سياق حلف يسعى لحفظ الاستبداد ويقف ضد إرادة الشعوب؟! وما قيمة تحريرنا من استبداد معاوية بن أبي سفيان وإدخال الناس في حظيرة الطاعة لحكام مستبدين تفصلهم عن معاوية قرونٌ؟!
ربما يجد "المتفهمنون الجدد" الجوابَ يوماً ما، عند عودة الضمير، أو على فراش الموت، الذي لن نهرب منه جميعاً.