كانت القضية الفلسطينية على صدارة القضايا العربية والإسلامية منذ نكبة عام 1948، وكان الاهتمام بها كقضية محورية ومركزية تمثل الهم المشترك للعرب والمسلمين ماثلاً لدهرٍ طويل، ولكن أسباب دولية وإقليمية عربية ومحلية فلسطينية أدت إلى تراجعها بشكل كبير، وانحسارها في ميادين الإعلام ومحافل السياسة، وخروجها من دائرة الاهتمام الأولى التي عهدتها على مر 7 عقود.
يرجع سبب الانحسار الكبير والخطير للقضية الفلسطينية إلى عدة أسباب، أهمها:
– حالة الضعف السياسي والوهن الذي تعاني منه السلطة الفلسطينية، وافتقارها لأوراق القوة القادرة على مواجهة "إسرائيل" في جولات المفاوضات والمحافل الدولية، وقد علمت "إسرائيل" هذا الأمر جيداً، فسعت لفرض واقع جديد من خلال طرح شروط جديدة لتسوية المفاوضات مع السلطة، مقابل تراجع السلطة في شروطها وطرحها واستمرارها في المفاوضات دون ثمرة تذكر.
في المقابل، تمتلك إسرائيل ورقة قوة رابحة أثبتت نجاعتها في جولات المفاوضات على مدى 25 عاماً، وهي حق الفيتو الأميركي الذي جعل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن التي تدين الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين مجرد حبر على ورق، وسعى أيضاً إلى تخليص "إسرائيل" من أعباء المساءلة الدولية، وساعدها في التملص من استحقاق اللوم على تجاوزاتها المخالفة للقانون الدولي، المتمثلة في السياسة التوسعية في الأراضي الفلسطينية، من خلال بناء مزيد من المستوطنات ومصادرة المزيد من أراضي الفلسطينيين، والسعي الحثيث في محاولة تغيير الطابع التاريخي والديموغرافي لمدينة القدس.
ويعتبر الدعم الأميركي اللامتناهي لإسرائيل واستخدامها لأوراق الضغط ضد المنظمات والمحاكم الدولية الجنائية عاملاً في خسارة السلطة الفلسطينية هذه الورقة الرابحة والوحيدة في يديها (التوجه للمحاكم الدولية).
وإضافةُ إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى المماطلة في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، فتجني من هذه المماطلة مكاسب سياسية حقيقية، وإظهار صورة للعالم على أن العجلة السياسية في حركة دائمة مع الفلسطينيين، فتكون فصول الصورة التي تريد إسرائيل أن تظهرها للمجتمع الدولي قد اكتملت بأن الفلسطينيين حقاً مرتاحون ومتفائلون بهذه المفاوضات، وأن الوضع القائم لا يحتاج أي تدخل سياسي خارجي، وخصوصاً مع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على إسرائيل.
كان اختيار السلطة الفلسطينية للمفاوضات السلمية كخيار استراتيجي ووحيد في مواجهة إسرائيل بمثابة انتحار حقيقي، فقد حشرت نفسها في زاوية لا مخرج منها من خلال تنصّلها للكفاح المسلح، والرضوخ للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وإعانته على هذا الاحتلال من خلال التنسيق الأمني، مما أدى إلى غياب أي قوة ردع عسكرية حقيقية -ولو كانت ضعيفة- بيد الفلسطينيين، الأمر الذي ساعد إسرائيل إلى فرض ما تريد ومتى تريد، وأدى تحول القضية الفلسطينية من قضية قومية إلى قضية قطرية.
حالة الضعف والوهن التي تعاني السلطة الفلسطينية -باعتبارها الممثل للفلسطينيين- انعكست بصورة مباشرة على الشعب الفلسطيني، فولدت حالة من الإحباط واليأس والضعف المعنوي وعدم الثقة بين السلطة الفلسطينية وقاعدتها التي كان يجب عليها أن تكون ورقة دعم ودفع لها.
– يلعب الانقسام الفلسطيني الداخلي بين محورَيه الأساسيين، حماس في غزة، وفتح في رام الله، دوراً خطيراً في التراجع الحاد في الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وأدت التجاذبات السياسية بين أقوى حركتين في فلسطين إلى قتل روح الوحدة الوطنية بين الفلسطينيين أنفسهم، وتسخير المنابر الإعلامية والثقافية المتعددة لتلك الفصائل لإسقاط الخصم والترويج للتنظيرات والرؤى الخاصة، وكل ذلك على حساب مساحة الاهتمام بالصراع الحقيقي مع الاحتلال.
– انحراف الرؤية العربية الرسمية وغير الرسمية في شكل المواجهة الحقيقية مع إسرائيل، وتفضيل الكثير من الأنظمة العربية التقارب مع إسرائيل بدلاً من مواجهتها واعتبارها عدواً، وقد علمت إسرائيل النية العربية الحقيقية فاستبقت الأمر، وبدأت بتوسيع علاقاتها وتطبيع تعاملاتها مع عدد من الدول العربية بشكل علني تارة، وسري تارة أخرى، وخصوصاً بعد مؤتمر مدريد عام 1993 وتوقيع دولة عربية كمصر والأردن وموريتانيا اتفاقيات سلام دائم مع إسرائيل، نتج عنها إقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية قوية، وفتح مكاتب تمثيل لها في تلك البلاد.
– أما عن تراجع القضية الفلسطينية إعلامياً ، فإن الأمر يعود إلى تراكم القضايا العربية المحلية، وخصوصاً في الوضع الحالي للوطن العربي الذي يشهد حالة من الصراعات والثورات والانقلابات الدموية، مما جعل من تلك الأحداث مواد حية للإعلام، تلف الرأي العام وتجذب اهتمامه، وفي المقابل لا يوجد في فلسطين أي أحداث توازي تلك الأحداث في البلدان العربية من ناحية حجمها واستمراريتها، إلا من بعض الأحداث العابرة، الأمر الذي أدى إلى تدحرج القضية الفلسطينية إعلامياً إلى ذيل النشرات الإخبارية، كما صرفت تلك الأحداث اهتمام النخب والمثقفين والمفكرين عن قضية فلسطين إلى قضايا بلدانهم المحلية.
بالإضافة لذلك، تحولت كثير من وسائل الإعلام العربية إلى خصم للفلسطينيين بسبب خلافات سياسية قائمة بين الدول الممولة لتلك الوسائل وجهات فلسطينية رسمية، فحماس التي تعتبر رأس حربة المقاومة الفلسطينية في غزة جعل ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين منها خصماً لدول عربية ناقمة على الجماعة، كالسعودية والإمارات ومصر، مما حولت تلك الدول وسائل إعلامها لجَلد حماس وما يتبعه من جلد للفلسطينيين وشيطنتهم بدلاً من الاهتمام بقضاياهم، فأثرت تلك الحملات الإعلامية المنظمة على تعاطف شريحة كبيرة من الشعوب العربية مع قضية فلسطين.
هذه جملة الأسباب الرئيسية التي أراها واستطعت حشدها في هذا المقال، مع التأكيد على ضرورة مواجهة خطر تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وضعف تعاطف الشعوب مع فلسطين؛ لأن قضية فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل هي قضية عادلة تمثل الأصالة العربية، والعقيدة الإسلامية، كما تعتبر قضية إنسانية تستحق تعاطف أحرار العالم معها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.