لقد شرع المولى -تبارك وتعالى- العبادات لغايتين: منها تحسين العلاقة بين العبد وخالقه -عز وجل- وربط المخلوق بخالقه جلّ شأنه، والإقرار له بالألوهية، والاستعانة به في جميع أحواله: "إياك نعبد وإياك نستعين" (سورة الفاتحة: الآية 4)، ومنها أيضاً تحسين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وتوثيق الروابط بين أفراد المجتمع؛ ليستطيعوا أداء الأمانة العظمى، والنهوض بالتبعة الكبرى في عمارة الكون بالخير، وتحقيق الخلافة في الأرض.
ولقد جعل المولى -تبارك وتعالى- للصيام وظيفة اجتماعية إلى جانب الوظائف الروحية، والصيام هو الذي يشيع في النفس الإحساس بالإنسانية، ويدربها على التحلي بالإيثار، قال عز وجل: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" (سورة الحشر: الآية 9)، والتحرر من الأنانية، ويربي فيها المقدرة على تحمل المشقات، ولهذا فإن الصيام يساعد على التخلص من كثير من الشوائب التي يستحيل على الفرد أن يقف في مواجهتها دون أن يشعر بقسوة الحرمان، فالجوانب الروحية هي التي تحقق من حد الحرمان، وتجعل منه متعة للنفس والروح، وهي من أهم مقوماته الاجتماعية.
إن الصيام مدرسة للتربية النفسية، والخلقية، والاجتماعية، تجد على جنباتها دروساً عالية غالية في الفضائل الإنسانية التي تكفل الحياة التي تسير سيراً آمناً مطمئناً.
والنظام الدقيق، والعمل المنسق، الذي يدرب الصائم على أن يسلك في حياته مسلك الدقة والنظام، ويعتاد السلوك المنضبط في شؤونه، وعلاقته مع الناس. والمسلمون جميعاً يجمعهم نظام الصيام، وفي هذا إعلان لحقوق الإنسان من العدالة والمساواة.
إن الصيام في مظهره الاجتماعي يعطينا صورة أسرة عظيمة مكونة من مئات الملايين تنتشر في جوانب الأرض، وتقترن شعائرها الدينية كل يوم بأمَس ما يحس به الإنسان في معيشته اليومية، وهو أمر الطعام والشراب، ومتع الأجساد، والملايين من المسلمين في جوانب الأرض يطعمون على نظام واحد، يستقبلون صيامهم على نظام واحد، وقلما انتظمت أسرة بين جدارين على مثل هذا النظام.
ومن أسرار الصور الاجتماعية أنه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، وتذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح، تذكير يسمعه الصائم من صوت المعدة، نداء الأمعاء، فإن الذي في أحضان النعمة ولم يعرف طعم الجوع، ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أن الناس كلهم مثله، وأنه ما دام يجد فالناس يجدون، وما دام يطعم لحم طير مما يشتهي وفاكهة مما يتخير، فلن يحرم الناس الخبز والبقول!
فلا غرو أن جعل الله من الصوم مظهراً للاشتراكية الصحيحة، والمساواة الكاملة، وجعل الجوع ضريبة إجبارية يدفعها الموسر والمعسر، ويؤديها من يملك القناطير المقنطرة ومن لا يملك قوت يومه، حتى يشعر الغني أن هناك معدات خاوية، وبطوناً خاوية، وأحشاء لا تجد ما يسد الرمق.
ويطفئ الحرق، فحري بإنسانية الإنسان، وإسلام المسلم، وإيمان المؤمنين أن يرق قلبه، وأن يعطي المحتاجين، وأن يمد يده إلى المساكين، فإن الله رحيم، وإنما يرحم من عباده الرحمن، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وقال أيضاً: "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
ومن هذا نعلم أن الصوم يحقق التكافل المعيشي بين أفراد المجتمع الإسلامي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهو شهر -أي رمضان- المواساة"، "من خفف فيه عن مملوكه…"، "من فطر صائماً كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبة من النار، وكان له مثل أجره).
هذه العبارات كلها رموز لمعانٍ عظيمة في شأن الرسالة الاجتماعية للشهر المبارك، حين يعاني الكل مذاق الجوع والظمأ، والسهر والقيام، ويكابد ما يكابده الفقير في السنة كلها.
يقترب الشعور من الشعور ويرق القلب من عمق الإحساس، فتتدفق مشاعر الرحمة والفضل والكرم، والتعاون والتآزر وتأسيس العلاقات الاجتماعية الراشدة، الفقير عفيف، والغني جواد كريم، والتواصل يحقق التكافل والكفاف، وعدو الإيمان الكفر يطرد من صفوف المجتمع المسلم.
يتسابق بعض الناس أمام وسائل الإعلام لإظهار التعاطف الكاذب مع المستضعفين برش بعض الفتات يلتقطه المنهكون، ويهتفون بهتافات الشبع والرضا، وما الرسالة الاجتماعية التي يريد الله تعالى منا أن نشبع لذة المترفين بالنظر إلى المفقرين، يتسابقون على ما جادت به اليد العليا.
إنما الرسالة الاجتماعية لهذا الشهر المعظم والدين المكرم أن تنظم الجهود وتعبأ الطاقات لطرد الفقر بيننا لتحقيق العيش الكريم، والكفاف والعفاف والغنى عن الناس.
المسلم ذو كرامة، فينبغي أن يكفي مؤونة نفسه وأسرته وعائلته.
وإذا لم يتحمل من طوق أمانة المسلمين ذلك، فلا مفر من جمع جهود المستضعفين فيما بينهم وتنظيمها؛ لتكون قوة اجتماعية فاعلة، أرضيتها الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعنقها تحقيق المواساة الدائمة، مبتغاها رضي الله تعالى وإدخال الطمأنينة على المستضعفين من بني الإنسان.
المستضعف للمستضعف، والمسكين للمسكين، والمؤمن للمؤمن، يداً في يد، وقلباً على قلب، صفاً متراصاً لاستنزال نصر الله تعالى على كل آفة خلقية واجتماعية وغيرها.
قال الله عز وجل: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات" (سورة البقرة: الآية 55).
فالبعد الاجتماعي إذاً بهذه الصفة الواقعية لا ينفك أبداً عن فريضة الصوم، بل هو مقصد من مقاصدها، وسر من أسرارها، ولعل من يراقب مجتمعات المسلمين خلال شهر رمضان يتأكد حقاً من هذه الحقيقة الثابتة؛ إذ يكثر الخير عن طريق المواساة والتضامن والتكافل الاجتماعي، وهذا المبدأ الجليل كان راسخاً ثابتاً في رصيد حياة النبيين والصديقين والسلف الصالح لهذه الأمة المسلمة، فقد كان يوسف -عليه السلام- لا يشبع من طعام بالرغم من كون خزائن مصر كلها تحت تصرفه، وقد سئل في ذلك، فقال: أخشى إذا شبعت أن أنسى ما يفعله الجوع بالفقراء.
وجاء في بعض الآثار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يشبه الصورة المأثورة عن يوسف الصديق، روى أن "رسول الله كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان"، فهو أجرى بالخير من الريح المرسلة، وهو تعبير جميل ينم عن عميق مواساته، وتضامنه مع ذوي الحاجات والإملاق والمسغبة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.