لقد أصبح جليّاً بما لا يدعُ مجالاً للشّك، أن نتائج زيارة ترامب الأخيرة لمنطقة الخليج بدأتْ تطفو على السطح، وسرعانَ ما أخذ كل طرفٍ دورَهُ بإحكام منتظراً إشارةَ الانطلاقة لتطبيق إملاءات البيت الأبيض، لكن ما يُميز هذه الخطوة غير المسبوقة سرعةُ التنفيذ أكثر من دقّته، وبدتْ غير محسوبة العواقب، بل وشابها التضاربُ والتخبّط في الكثير من المواقفِ والتصريحاتِ الرسمية، كاشفةً بذلك عن مؤامرةٍ أُعلنت شرارتُها بمُجرد أن وطئتْ أقدامُ ترامب أرضَ الخليج.
إن الحملةَ الشّرسة التي تتعرضُ لها قطر إعلامياً وسياسياً من لدن الدول الأربع صاحبة قرار قطع العلاقات، إذا ما قارناه مع الانقلاب العسكري الذي حدث مؤخراً في تركيا وأُريد به إسقاطُ أردوغان للتحكم فيما تبقى من نفوذ العثمانيين وخنقِ أنقرة، إذا ما قارنا الحادثين سنجدُ أن مُدبّرهُما واحد، والأيادي التي أرادتْ إسقاطَ تركيا إبّان الانقلاب العسكري الفاشل هي نَفسُها من تُعدُّ العُدّة لقطر.
فكلنا يعلم أن تركيا اليوم أصبحت من الدول التي يُحسبُ لها ألفُ حساب في المنطقة، وساعدها في ذلك تنامي قُدُراتها العسكرية مع القفزة النوعية التي أحدثها أردوغان في الاقتصاد التركي شأنهُ شأن العراق في أيام هيبته وعُنفوانه، فكان من الضروري جداً أن يُحفرَ لتركيا خلسةً حتى تَسقطَ في نَفقِ الصراعات والفوضى الهدّامة، وبالتالي إخضاعها للسياسات الخارجية، لكنَّ الانقلاب العسكري باءَ بالفشل الذريع كما شاهده العالمُ بأسره في ملحمةٍ بطوليةٍ من إبداع الشعب التركي، فاندثَرتْ بذلك أحلامُ الحالمين.
هناك قوى دولية فاعلة لا تُريد لصوتِ الحقّ أن يَعلو على أصوات الإخضاع والمدافع، تكرهُ أن يتمَّ إزعاجُها وهي ماضيةٌ في تنفيذ مُخطّطاتها واحداً تِلوَ الآخر، تُشبهُ بذلك سرطاناً يُحاولُ تدميرَ أيّ مَصلٍ يَقومُ ضدّه، هذه القوى لا تعدُو أن تكونَ إسرائيل ومَن يدور في فَلكِها كأميركا وغيرها.
لماذا قطر؟
قطرُ التي تُشكّلُ اليومَ الحُلم العربيَّ الأجمل والغد الأفضل الذي نتوقُ له جميعاً، حُلمٌ يُعيدُ للوحدة العربية مَكانها، وبعضاً من نسائمِ تاريخِنا المجيد، وهذا لن يتأتّى إلا بدولةٍ متينةٍ اقتصادياً وعسكرياً قادرة على حماية نفسها وفرض كلمتها ومواقفها على الساحة الدولية، فرغم صِغَر مِساحتها فإنها تتربّع على عرش الترتيب العربي كالشُّعلة النابضة والمَفخرة الحقيقية مقارنةً بباقي الدول العربية التي ينهَشُ أغلبها الفقرُ والاستبداد.
قطرُ الحاضرة بقوة كلما تحدثنا عن مؤشرات النهضة الإنسانية بالمقاييس العالمية، تنافسُ دولاً عظمى على اعتلاءِ هَرمِ مجالاتٍ مُعينة إنْ لم نقلْ تتجاوزُها، فأﻋﻠﻰ متوسط للدخل الفردي ﻓﻲ العالم موجودٌ في قطر، وهي اﻷولى ﻋﺮبياً والرابعة ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻮى العالم في جودة التعليم بعد اليابان، والدولة الوحيدة التي ﻻ يوجد بها ﺿﺮائب، ﺗُﺼنّف اﻷولى عالمياً ﻓﻲ ﻣُﺆﺷﺮات انعدام البطالة والسادسة في ﺟﻮدة الصحة، ناهيك على أن ﻣﻮاطنيها يُعالَجون جميعاً في الخارج ﻋﻠﻰ نفقة الدولة، وهي اﻷولى عالمياً في الادخار الوطني وﻣﺆﺷﺮ اﻷﻣﻦ الغذائي، واللائحة تطول وتطول والإنجازات لا تُعد ولا تُحصى.
لا نتحدث هنا عن الصين أو ألمانيا كما العادة، وإنما عن دولة عربية خليجية لسان أهلها الضاد، انتماؤُها العروبة ودينها الإسلام الحنيف.
أمام هذه الأرقام المبهرة، كيف لقطر أن تَظهرَ عليها كل هذه البوادر من التطور والرقي على جميع الأصعدة، فكان لزاماً أن تبدأ آلة الهدم والتعطيل في حَبْكِ مُؤامراتها والتخطيط لإضعاف قطر ولشل اقتصادها القوي حتى تظهرَ بمظهر الضعف والحاجة، وذلك لفسح المجال أمام المتحكمين في المنطقة لممارسة ضغوطاتهم الرهيبة للحصول على المزيد من التنازلات.
ومن هنا يتّضحُ السببُ في عدم اتّهام دولٍ فقيرة بدعم الإرهاب رغم أن بعضها يعشّشُ فيها الإرهاب علانيةً فيأكل ويشرب وينام على مرأى ومسمع من العالم دون أن يُحرك ساكناً، ببساطة لأن مثل هذه الدول لا يُرجى من ورائها عائد، ولا تدَّخرُ الملايين في البنوك الأميركية حتى يتمّ حجزُها، ولا تزخرُ أراضيها سوى بالفحمِ والجير، وبالتالي فإن وضعَها على قوائمِ الإرهاب ومحاصرتها مضيعةٌ للوقت وصفقةٌ خاسرة.
قطر بإعلامها الرائد قطعت أشواطاً طويلةً في تبني الرأي والرأي الآخر، والانحراف عن خاصية القُطبيّة في الإعلام العربي، وقفتْ وساندتْ الأقليات المضطهدة وحقّ الشعوب في الحرية والكرامة، ففَضحتْ وعَرّتْ ممارسات الاحتلال والأنظمة الاستبدادية في التنكيل بشعوبها وكبحِ جماحِ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وضمَّتْ صوتها لكل الأصوات المقهورة فوق الأرض، وهذا كان السبب الرئيسي في منعها من أداء رسالتها النبيلة في الكثير من الدول العربية.
ما يجب فعله في مثل هذه الظروف
غالباً ما تَلجأُ الدولُ العاجزةُ إلى خيار الحِصار، كما حدثَ مع المملكة المتحدة في القرن التاسع عشر؛ حيث فَشِل نابليون في هَزمها رَغم محاولاته العديدة إلى أن لَجأَ للحصار الاقتصادي على كل أَوجهِ التجارة مع المملكة المتحدة القوية آنذاك بُغيةَ إضعافها؛ لذا فالتحلي بالثّبات والرزانة وتحريك عجلة الدبلوماسية في كل مكان من الطبيعي أن يُعطي ثِمارَه، فعندما تتكالبُ عليك أطرافٌ خارجيةٌ فأنتَ أقرب ما تكون إلى حربٍ غير مُعلنة، والذئبُ لا يقصدُ سوى الفريسةَ الشاردةَ لكي ينقضَّ عليها كلُقمة سهلةٍ سائغة، لذا فمن الضروري على قطر أن تبحث لنفسها عن تحالفاتٍ دوليةٍ وصفقات عسكرية تُقوّي بها شوكتَها وتُرعب مُتربّصيها، يقول يوهان غوته "الجبانُ يهدد إذا شعر بالأمان"، أما إذا شعر بأن خصمَهُ مدعومٌ من قوى دوليةٍ وازنة، وجزء لا يتجزأ من تحالف عتيد، فهو سرعانَ ما يتراجعَ عن غيّه ويُغيّر من نبرةِ صوته وحِدّة خِطاباته.
قطر بِحنكتها السياسية قادرة على تجاوزِ هذه الأزمة بأقل الخسائر، ويبدو أن الخاسرَ الأكبرَ هي الدول التي فَقدتْ حليفاً استراتيجياً لها في المنطقة، وكَشفتْ عن نواياها المُبيّتة، واندفعتْ وراء أوهامٍ خدّاعة دون درايةٍ ولا تبصّر، ظناً منها أنها ستظفرُ برضى دولة العم سام، لكن التاريخ أثبتَ أكثر من مرة أن الثقةَ في مثلِ هذه الوعود أقرب إلى الانتحار.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.