القضية لا تُباع ولا تُشترى إلا عند بعض قادة العرب، فالقضايا عندهم تجارة رابحة، يدعونها وقتما يشاءون، ويبيعونها حين يرغبون، وفي كل مصلحة تُباع قضية، وتُشترى واحدة جديدة.. وأسهل شيء يُمكن أن يُعمل به لتسيير الشعوب على هواهم، هي التجارة بالقضايا العظيمة.
كتابة السيناريو، وتمهين الممثلين، واختيار الإخراج الجيد، وتدقيق التصوير، ليس صعباً عليهم كثيراً، وهم بذلك غالباً ما ينجحون، إلا أن الصعب الذي به يكمن الفشل، هو نهاية الفيلم.. هم يخرجون ويمثلون ادعاء القضية كما يشتهون، وخلال العرض يحققون نجاحات ليست بالقليلة، لكن المشكلة الصغيرة، هي أنهم لا يخططون جيداً لنهاية القصة (the end).
للزعيم العربي عادة، كما للشعب أيضاً، عادته أن يكذب ويؤلف لأجل مصالحه، وعادة الشعب هي أن يصدق الكذبة، ويتأثر بالقصة، ويأبى التفقه!
لا ننكر أحقية القضية الفلسطينية، ولا نتملق للصهاينة ونقول إنهم أصحابٌ أخيار، ولكن يجب ألا نسير وراء الكذاب والمتاجرين، ولا نعيش بوهم نعرف أنه اخترع مصلحة لذاك الزعيم.
طوال السنين الماضية، اعتدنا جميعاً على أن قضية فلسطين، هي قضية العرب أجمع، ولذلك كان الزعماء العرب يتغنون بفلسطين الأبية، ويرفعون شعارات النصر لها {الشعارات فقط}.. لكن فجأة اكتشفنا أن ذاك هو تغنّ كاذب، على المصلحة السياسية يحيا، وعليها يموت!
ما إن أنزل ترامب قدمه من طائرته، حتى أُعلنت بداية نهاية المتاجرة بقضية الموسم، وهذا لأن الإله الجديد، المتحكم ببعض الزعماء، يرى أن هذه المتاجرة تتعارض مع سياساته، وعاد إلى طائرته بعد أخذ الجزية، ليجلس بجانب نتنياهو ويُعلن أن العرب يتطلعون لصداقة جديدة مع إسرائيل.
وهنا بدأت القضية الفلسطينية تتناسى، ونقرأ في الصحف أن إسرائيل بدأت تتواصل مع بعض أصحابها العرب، أو الذين سيكونون أشقاءها قريباً، وبدأت تعمل على فتح علاقات جميلة مع مَن للأمر قد رضخ.. وهنا كان الإله الجديد يطالع ويبتسم، ويعبر عن رضاه لعباده!
المشكلة ليست بالمخادع، فهو سياسي يفضل مصلحته، ويفعل كل شيء لأجلها، حقيقة المصيبة تكمن في المخدوع، الذي تعتقد لوهلة أنه يتخذ من خداعه هواية يستحببها، ويكره أن يتجنبها، فتجده في كل أكذوبة غارقاً مستمتعاً، بلا إدراك وتفهم.
ولأن الزعماء العرب لا يستطيعون أن يسيروا شعوبهم إلا بادعاء قضية كاذبة، أو اختراع عدو وهمي، فكان يجب التفكير بشيء جديد يُتاجر به، ويتوهم به الجماهير، على ألا يعارض سياسة صاحب الأمر الأميركي.. وبعد تفكير بسيط، رأوا أن الأمر يناسبه، اختراع "العدو الإيراني"، يضيعون من خلاله بيع القضية السابقة، ويضمنون سير الجماهير وراءهم، خوفاً من العدو الجديد الذي يهدد مذهبهم ودينهم وموروثاتهم!
لا شك أن إيران أقرب للعرب بكثير من إسرائيل، من خلال المشتركات الدينية والتاريخية وما إلى ذلك، إلا أن الزعماء تمكنوا من إيهام الكثير من جماهيرهم، بأن إيران عدو للعرب أكثر من إسرائيل حتى، والمشكلة أن الكثير من الشعوب صدقت هذه الأكذوبة، وما زالت تنادي بها، وتدعو للوقوف بوجه العدو الجديد، لنصرة القضية!
لا أدافع عن إيران، ولا أحب حكوماتها، لكنها في حقيقة الأمر، قريبة جداً للعرب من خلال المشتركات فيما بينهم؛ التاريخية والدينية، إضافةً للأنظمة الديكتاتورية القمعية المتشابهة! ولم تكن يوماً عدواً حقيقياً أكثر من إسرائيل، التي كان لها عداء طويل مع العرب كما يُقال ويُقرأ، لكن الأمر وما فيه هو أن العدو الإيراني أكذوبة ووهم اخترعها الزعماء العرب، ليضمنوا طاعة الناس لهم؛ لأنهم سيكونون بأعينهم المخلّصين والمنقذين.
هذه هي الديماغوجية اللعينة، التي انتشرت كالوباء في أمة العرب، وما السبب إلا في استمرارية الانخداع بها، والخضوع لمن جعلها أسلوباً لحياته السياسية، واللاوعي السياسي المنتشر في المجتمع، هو سبب ذاك الانخداع، كما أنه سبب مشاكل كبرى كثيرة، وحله سيحلحل الكثير من الأزمات التي دمرت المنطقة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.