شكَّل الإعلان عن سقوط الخلافة الأموية في الأندلس من قِبل الوزير أبي الحزم بن جهور سنة 422 هجرية حدثاً مفصلياً في التاريخ الإسلامي؛ حيث أعقب ذلك نشأة حقبة ملوك الطوائف بإعلان كل أمير عن تأسيس منطقة حكم ونفوذ تابعة له، وتم كنتيجة لذلك تقسيم الأندلس إلى سبعة أقسام جغرافية رئيسية و22 إمارة؛ حيث شكلت الورقة العرقية والإثنية عاملاً أساسياً في تحديد مناطق النفوذ هذه.
وقد اعتبرت تلك الحقبة بمثابة نقطة مظلمة بكل ما تحمله الكلمة من دلالة في تاريخ الأندلس؛ حيث ساد التناحر المستمر وتضارب المصالح، وعدم الاستقرار والاقتتال العسكري، والتآمر بين الدويلات الغنية ضد بعضها البعض، وغاب الإبداع، واتسعت الهوة بين الحاكم والمحكوم، وغابت العدالة الاجتماعية، كما سادت الاستعانة بالأجنبي على حساب الأشقاء حتى وصل الأمر إلى دفع الجزية للملك ألفونس، ولم يشفع حينها تدخل يوسف بن تاشفين من خلال انتصاره على الملك ليون في معركة الزلاقة سنة 1086 ميلادية في معالجة جذور هذا الخلاف، وعوامل الضعف الداخلي، وقد وفّرت تلك العوامل في جملتها الظروف المواتية لإضعاف الوجود الإسلامي بالأندلس، إلى أن تم الإعلان عن سقوط غرناطة سنة 1492 ميلادية، وإنهاء الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية الذي امتد لفترة ثمانية قرون من الزمن.
الواقع العربي الحالي يبدو الآن أقرب إلى هذا المشهد على الرغم من اختلاف السياق التاريخي والواقع الجيوسياسي، ويتمثل ذلك بكل وضوح في دفع جزية تفوق 400 مليار دولار للرئيس ترامب في مقابل وعود بالحماية من "الخطر الإيراني"، وتفجر الأزمة الخليجية الناجمة عن المقاطعة التي فُرضت على دولة قطر في العاشر من رمضان من قبل بعض أشقائها في دول مجلس التعاون الخليجي، ومحاولة عزلها براً وبحراً وجواً بحجة "دعمها للإرهاب"، فيما يشبه إعلان حرب، الشيء الذي شكَّل مفاجأة مدوية حتى لدول كبرى ومؤثرة في القرار السياسي الدولي؛ حيث لم تتردد بعضها في إعلان استعدادها للتدخل وتقديم المساعدة كفرنسا أو ألمانيا أو تركيا عبر التوسط في حل هذه المشكلة التي تنذر بما هو أسوأ في حال عدم احتوائها دبلوماسياً.
هذا المشهد ذكرنا أيضاً بحالة الانخراط المباشر في إسقاط أنظمة حكم عربية أخرى منتخبة ديمقراطياً عبر انقلاب عسكري كما بالنسبة للحالة المصرية، أو عبر المشاركة في حصار العراق والعمل على إسقاط نظام صدام حسين على الرغم من أنه لطالما شكَّل حزاماً واقياً ضد التمدد الشيعي الذي أصبحت تتوجس منه العديد من الدول العربية الآن، أو الحالة الليبية عبر دعم الجنرال حفتر والحالة اليمنية، أو عبر تبني بعض الدول لحركات انفصالية ضد دول أخرى شقيقة كدعم متمردي دارفور أو جبهة البوليساريو.
أما النتيجة المأساوية لما آلت إليه الأمور في العالم العربي كنتيجة لهذه السياسات التي يمكن وصفها بالقصيرة النظر وبفعل عدم الإيمان بالمصير المشترك هي انهيار دول عربية بأكملها وتحولها إلى دول فاشلة ومقسمة عملياً؛ حيث أصبحت تشكل مصدراً للنازحين ومرتعاً للإرهاب الدولي وكل معاني المآسي الإنسانية كسوريا، ودول أخرى تشير العديد من المؤشرات إلى أنها في طريقها للانهيار بفعل غياب الديمقراطية والتعاون المشترك وانتشار الفساد واتساع حجم الهوة بين الحكام والشعوب وضعف التنمية وعدم القدرة على الاستجابة للحاجيات الاجتماعية المتنامية لمواطنيها كالصحة والتعليم والشغل، أو بفعل تصاعد النزعات الطائفية والعِرقية والحركات الانفصالية، وفي كثير من الأحيان غياب الروح الوطنية وطغيان المصالح الشخصية على حساب المصلحة العليا للوطن.. إلخ.
إن هذا الواقع الدراماتيكي يستدعي النظر إلى مخاطره بكل جدية، كما ينبغي أن يدفع الحكماء في العالم العربي من حكام وسياسيين ونخب فكرية ومثقفين إلى إجراء تقييم شامل ودراسة عميقة للمرحلة والاستفادة من عبر التاريخ، وذلك بهدف مجابهة مختلف التحديات المعاصرة التي تحدق بالجميع دونما استثناء، وتغليب منطق العقل والحكمة في تدبير النزاعات البينية والإيمان بمبدأ التعاون والمصالح المشتركة والاندماج والتكامل بدل الاستعداء، وإرساء أسس المسار الديمقراطي، واحترام إرادة وخيارات الشعوب، والإيمان بوحدة المصير في تدبير هذه المرحلة التي تبدو حبلى بالصعوبات والمتغيرات المتسارعة التي تنذر (لا قدر الله) بواقع أقرب إلى سيناريو سقوط الأندلس، ذلك السقوط الذي لم يستثنِ أحداً من الكيانات السياسية المتناحرة التي حكمت دويلات الأندلس، على الرغم من تباين ولاءاتها وتحالفاتها وفي كثير من الأحيان مصالحها؛ حيث لم تشفع لها استغاثاتها ورثاؤها، ذلك السقوط المدوي الذي أنهى فصلاً مشرقاً من فصول الحضارة الإسلامية بشبه الجزيرة الإيبيرية حيث ما زالت آثارها بادية حتى يومنا هذا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.