الريف وأزمة العقل السياسي المخزني

ما يقع في الريف ما هو إلا شكل من أشكال أزمة العقل السياسي المغربي، وإن شئنا التدقيق في القول، فما نشاهده ونعاينه اليوم ما هو إلا تفريغ لعُقد وكبت نحو التسلط وشطط في ممارسة السلطة، مع التمادي في التعامل مع المواطنين كرعايا ومريدين محجور عليهم وعلى حيواتهم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/18 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/18 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش

ما يقع في الريف ما هو إلا شكل من أشكال أزمة العقل السياسي المغربي، وإن شئنا التدقيق في القول، فما نشاهده ونعاينه اليوم ما هو إلا تفريغ لعُقد وكبت نحو التسلط وشطط في ممارسة السلطة، مع التمادي في التعامل مع المواطنين كرعايا ومريدين محجور عليهم وعلى حيواتهم.

فالمشكل الحقيقي ليس في الحسيمة ولا الحل هو الآخر هناك أيضاً، فحتى لو تم حل كل المشاكل في تلك الرقعة الجغرافية، وتم تحقيق كل المطالب التي رفعها المحتجون- فإن المشكل الأساسي لن يُحل؛ بل في الحقيقة ذلك حتى لم (وهو مستبعد جداً)، سيكون مجرد جرعة مهدئة لإطالة أمد داء دون البحث عن الدواء الحقيقي، ببساطة لأنه دون التشخيص السليم للمرض فلا يمكن أن يكون هناك علاج فعال وتام، وستبقى كل الوصفات مجرد مضيعة للوقت وهو ما يجعل التكلفة تزداد كلما تأخر الأمر.

فالحقيقة المغيَّبة؛ هي أن رد فعل السلطة تجاه حراك الريف ما هو إلا تعبير عن إشكال أعمق، إشكال متمثل بالخصوص في فهم واستيعاب من يحكمون البلد لمفهوم السلطة ولمعنى الميثاق الذي من المفترض أن يحكم علاقة المواطن بالدولة، إن الأمر ما هو إلا تعبير عن حجم العطب الذي أصاب عقل مركز السلطة.

فمراكز القرار تجد نفسها أمام حالة اجتماعية واقتصادية "عصرية"، لكن في الآن ذاته نجد أنفسنا أمام نخب تكنوقراطية تشتغل بعقلية مخزنية تقليدية هي من تم تكليفها بحل المشكل، نخب تشتغل وفق منطق خاص وهو منطق لا يخضع للضوابط والشروط القانونية أو الدستورية كما هو مفترض في أي دولة عصرية تحكمها مؤسسات مستقلة وممثلة للشعب.

وهو الأمر الذي جعل بقعة الزيت تتسع يوماً بعد آخر دون أن يفهم الماسك بزمام السلطة أن مَكمن الخلل والمشكل الحقيقي يوجد في تلك النخب بالذات والمنطق الذي تدير بها كل أمور الدولة -بالنيابة- وليس فقط ملف حراك الريف.

إن مشكلة السلطة والحكم المركزي بالمغرب أنه لم يؤسس يوماً لدولة مؤسسات وإنما أسس لدولة "أوامر"، ومشكلة الدولة أنها لم تستطع أن تتخلص يوماً من جلباب "السلطنة" الذي هو أقرب لنظام الحكم الديني؛ ومن ثم كانت تتعامل مع من يعيشون في نطاق ترابها كرعايا مملوكين يجب أن يكونوا في خدمتها وتحت طاعتها، بدل العكس الذي هو أن تتعامل معهم كمواطنين تكون السلطة ومؤسساتها من يجب أن تكون في الخدمة، بما يجعل طبيعة العلاقة مقلوبة من الأصل.

وحتى مع التطور التاريخي وما طرأ على المجتمع من تحولات، إلا أن النظام السياسي بالمغرب لم يستطع يوماً التخلص من "خطيئة التأسيس" تلك؛ إذ ظل وفياً ومحافظاً على نمطه التقليدي المنبثق من القرون الوسطى، وكانت تجديداته مقتصرة فقط على تكييفات وتغييرات طفيفة بما يتماشى مع ضرورات الحياة الحديثة دون أن يمس ذلك المضمون والعمق.

بل وحتى مع الفرصة التي كانت فيها القطيعة مع هذا؛ أي مع فترة الاستعمار الفرنسي أسوة بما هو معمول به مع بلدان مثيلة، فالذي وقع هو العكس، حيث سعت فرنسا إلى الحفاظ والإبقاء على المخزن؛ بل وتوظيفه في سياسته الاستعمارية، وبمجرد جلاء فرنسا وجدنا أنفسنا أمام نظام هجين بوجهين حداثي/تقليداني دون أن تكون له الشجاعة الكافية للحسم في اختيار أحدهما بشكل مطلق.

هذه الازدواجية في الحكم والسلطة أفرزت لنا شكلين متوازيين في بِنْية الدولة، شكل أول هو المتحكم الحقيقي في زمام الأمور وهو الذي يدير كل المؤسسات الوازنة والحساسة داخلها، وهو ما يُطلق عليه عادة المخزن أو الدولة العميقة أو حتى السلطة الموازية، ومع تعدد الأسماء لكن المضمون واحد؛ وهو أنها لا تمثل الشعب ولا تخضع لأي محاسبة من قِبله، كما أنها لا تشتغل إلا بمنطق الأوامر ووفق تراتبية تنطلق من المَلك وتنتهي بآخر العنقود الذي هو "المقدم"؛ إذ هي شبيهة بنموذج أمني أو عسكري.

أما الشكل الثاني، فهو أحد إفرازات دولة الاستقلال حينما حتمت الظرفية إنشاء مؤسسات حديثة شبيهة بما هو موجود في كل الدول (برلمان، مجالس منتخبة، وزارات… إلخ)، هذا الشكل يتم توهيمه بالسلطة فقط ولا يمتلك منها شيئاً، فحتى مع وجود دساتير وقوانين تمنحه إياها إلا أن الواقع يجعلها مقتصرة على الفئة الأولى فقط، لكن وعلى الرغم من ذلك فهي مجبَرة على وضع الحساب أمام الشعب وتخضع له كما أنها تكون منبثقة منه.

فلنأخذ مثلاً نموذجاً لأحد المطالب الواضحة والبسيطة التي نادى بها جزء كبير من النخبة المجتمعية غير المخزنية، حيث منذ استقلال المغرب تعاقبت الدساتير فتعاقبت النداءات بقيام نظام برلماني بمجلس تشريعي ناشئ عن اقتراع شعبي حر، غير أن المبادرة تبقى بموجب "القانون المقدس" بين يدي العاهل من حيث هو المبايَع بالإمارة العظمى، حيث يُسند إلى المَلك سلطة التشريع خارج الأحكام الدستورية.

إذ إأن الدستور نفسه يكرس ثنائية المرجعية؛ البيعة من جهة (سلطة إمارة المؤمنين)، والقوانين الدستورية الوضعية من جهة أخرى، الشيء الذي يجعل منطق "الأوامر" بدل القوانين هو القاعدة والميثاق الذي يعلو ولا يُعلى عليه.

أما مردُّ هذا، فليس فقط لتسلطية النظام وتوظيفه للقوة القهرية المتمثلة في وزارة الداخلية كعنصر محوري وأساسي للضبط والإخضاع، أو على الأجهزة الأمنية والعسكرية كآليات احتياطية للمساعدة على الأمر، لكن لا يمكن أن نفسر موقف أغلبية شعبية خاضعة للحرمان من كثير من الحقوق وتبدو راضية عن ذلك دون استحضار ذلك القمع الممزوج بالأفكار والمعتقدات التي تقوم بدور "أفيون للشعب".

وهذا ما يفسر كذلك حتى وجود أغلبية شعبية دائمة البحث عن أقصى تقرُّب من مركز يوزِّع النعم والثروات والنفوذ، كما أنها مستعدة للتضحية ومنح نفسها كقربان لخدمة المركز، وهو ما يسري تقريباً على الفئة التي يطلق عليها حالياً "العياشة".

فجزء كبير من أزمة النظام وعطب المنظومة وتلخبط النسق السياسي، ناجم من كونه أُسس على قواعد قرو-سطوية بائدة، ومحكوم بقواعد ثيوقراطية ولاهوتية غير واضحة أو على الأقل لا عقلانية، بما يجعل أي محاولة لإخضاعها لمنطق العقل أو القانون الوضعي غير ممكنة بالشكل الحالي؛ ومن ثم يبدو حتى من العبثية مجادلة أصحابها عليها.

هذه المسألة قد لا تبدو للكثير منا بتلك الخطورة والحساسية التي عليها، لكن عندما نتعمق في الأدوار وهامش التحرك وحينما يُسلط الضوء على طرق توزيع الأدوار وتفريغ السُّلَط بين المركز والهامش- حينها نكتشف أن المواطن-الرعية هو آخر ما يشكّل الهم داخل هذه الخطاطة السياسية.

فآليات (الهبة، النعمة، الحظوة، الرضا، السخط، الغضبة…)، كلها مفردات تحمل في طياتها شيطان ممارسة الحكم داخل مؤسسات الدولة، ليس فقط من المركز إلى الهوامش، لكن حتى من خلال العلاقات بين الرؤساء والأتباع داخل كل المؤسسات والتجمعات التي تنتج فيها القرارات.

فحتى الآن، لا توجد قاعدة قارّة ولا ميثاق واضح لأسس العلاقة بين المواطن والدولة، فالقانون والدستور يبقيان مجرد قاعدتين هامشيتين أدنى درجةً وسمواً من علاقة السلطان والرعية التي كانت السائدة منذ التاريخ وهي التي لا تزال تحكم وتتحكم في تسيير أمور الدولة وتتحكم في مراكز القرار.

فالذي حدث، أن هذا المنطق في إدارة البلاد أنتج لنا نخباً غير تابعة ولا تخدم المجتمع في شيء ولا المواطن في الحقيقة، لكن همها الأول والأساسي هو الحصول على تلك "الحظوة" و"الرضا" المخزنيَّين؛ على أمل البقاء في مركز النعمة، والحيلولة دون كل ما من شأنه إثارة الغضبة أو السخط من المركز.

ومن نتائج هذه العلاقة، أن وقع شرخ كبير في علاقة المواطن بالنخب التي تتوسط علاقته بالسلطان، حيث لم تشكل تلك النخب سوى ائتلاف مصالح وشبكة أخطبوطية موزعة على ما هو مدرٌّ للمال والثروة أو امتلاك للسلطة في البلد.

الأمر الذي نتج عنه كذلك تصفيات حسابات وصراعات النفوذ والتناور على المراكز والمنافع، هذا الأمر جعل في كثير من الأحيان صراعات الأشخاص والمجموعات داخل نخبة المخزن قاسية ودائمة دون شفقة، وكانت المكائد والمؤامرات فيما بين أطراف المربع القريب من البلاط هي السمة الأصل للوضع.

وهو ما جعل المسؤوليات التي حظي بها هؤلاء يتعامل معها كـ"غنيمة حرب" لا شأن ولا فضل للمواطن بها ولا تهمه في شيء؛ بل الأكثر من ذلك كانت الصراعات تخرج عن نطاق المتحكَّم فيه وتفرز لنا أزمات كبيرة مهدِّدة للبلد برمته (صراعات رجال الحسن الثاني مع رجال محمد السادس، تفجيرات الدار البيضاء 2003، صراع جناح الهمة وجناح الماجيدي، أحداث أكديم إيزيك، واليوم مع حراك الحسيمة وما رأته إحدى الجرائد الفرنسية "ماروك إنفو" سعياً لتصفية حسابات سياسية بين الأمن والمخابرات من جهة والدرك من جهة ثانية…).

وهو ما يجعلنا نخلص إلى فكرة مفادها أن المنظومة التي تحكم البلد لم تكن في حقيقتها تمثل فكراً بنّاء أو إرادة ايجابية موحدة لخدمتها؛ بل كان هدفه الأسمى ينحصر في البقاء لفائدة الجماعات والأشخاص الذين يكوِّنون مربع السلطة وذلك النطاق الضيق، وبما يمنح أقصى درجات الاغتناء ومراكمة الثروة والسلطة منه دون أن يكون للمواطن العادي نصيب ولا حظ من أي منهما.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد