غطّ أبو سليم كعادته في نوم عميق قبيل انتظاره أخبار العاشرة من التلفزيون الأردني، فأبو سليم هذا نجار يعمل بكل جد وإخلاص، وغالباً ما يعود من عمله مرهقاً متعباً، وابنه سليم جامعي تخرج منذ ما يزيد عن خمس سنوات وما زال يبحث عن عمل له في مجال الصحافة والإعلام.
لقد رأى في منامه فيما يرى النائم -بعد أن سلب النوم يقظته- بلاداً مليئةً بالخيرات، حباها الله بصنوف متعددة من الثروات الشيء الوفير، لقد رآها بلاداً وردية مشرقة، "كنهرٍ متدفق تنمو على ضفتيه زهور الياسمين" غير أنّ واقعها خلاف ذلك، فحياة سكّانها مجبولة بالجوع والخوف والترقّب، وأموالهم منهوبة بالضرائب والإتاوات، وأحلام شبابها مسروقة منذ أن جثم ثلّة من اللصوص على كراسيّ المسؤولية فيها.
لقد كان هؤلاء المسؤولون يتم اختيارهم بالتنفيع والصداقات والعلاقات من خلال رئاسة الحكومة في تلك البلاد، ويتم تدويلهم في أحيانٍ وتوريثهم في أحيانٍ أخرى، وكأنّ بطون نساء تلك المملكة لم تنجب غيرهم، فالوزير بعد أن تنتهي مدّة وزارته يُذهب به إلى وزارة أخرى، أو منصبٍ آخر، وإن كان هذا الوزير قد توفّاه الله جيء بابنه خلفاً له، وكانت الأعراف في هذه البلاد عند كل تعديل وزاري يجتمع العامة في ساحة ينتظرون سماع بيان التعديل، ومن الغريب أنّ هؤلاء الوزراء كانوا لا يستحيون من أن يأتوا إلى الساحة هم وكراسيهم يحملونها على مقعداتهم خوفاً من ضياعها أو خوفاً من أحد العامة أن تسول له نفسه سرقة الكرسي أو مزاحمته عليه.
كان من بين هؤلاء الوزراء وزيرٌ معروفٌ بطول مدّة إقامته على كرسيّ الوزارة، فقد سجل فتراتٍ قياسية في جلوسه لخمس حكومات متعاقبة وهو جاثمٌ على منصبه بشدّة وبطريقة حديدية مستميتة يصعب الإفلات منها.
وكانت كل وزارة لا يتم تشكيلها إلا وتأتي معها أخبارٌ غير سارة للنّاس من رفع للضرائب وتدنٍ للأجور معلّلين بذلك ومعتذرين للشعب بنوع من الخبث عن قلة الإمكانات وقلة المصادر وقلة ذات اليد!
يا الله! أيعقل هذا في بلادٍ حباها الله بكل صنوف الخير والعطاء؟! لقد هال أبا سليم ما كان يرى في منامه، ويبدو أنّ علامات الإجهاد والضيق بدأت على وجهه محاولاً الاستيقاظ والإفلات من هذا الكابوس اللعين لكن دون جدوى حتى جاء الفرج من أم سليم تدفعه بيدها بنوع من الغضب قائلةً: "قُم اصحى". فاستيقظ فزعاً وهو يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم والجاثوم اللعين، كانت حينها مقدمة موجز الثانية عشرة ليلاً تتلو خبر تعديل مرتقب لرئيس للديوان الملكي.
تابعت أم سليم: "قم نم في الداخل على فراشك، غداً رئيس الوزراء سوف يأتي على طعام الغداء "مناسف" أعدّته له عشيرة التل، ربما استطعت أن تقابل الرئيس وتتوسط لابنك وتسعى له في وظيفة ما هنا أو هناك". رد قائلاً: يا أم سليم اذكري الله! أتعتقدين أنّ واحداً مثلي من الطبقة الكادحة يستطيع مقابلة رئيس الوزراء؟! إلاّ أنّني سأحاول جاهداً أن أتسلل من بين الحشود وأقترب منه، وأقول له: أنا داخلٌ على الله ثم عليك أن توظف ابني، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه يا أمّ سليم: هل سيدعني حرس الرئيس من إكمال كلامي أم سيدفعونني بعنف ويبعدونني عنه؟!
لولا الشعب لجاعت الحكومة
ذهب أبو سليم إلى منجرته صباحاً وفي ذهنه أن ينجز عملاً لأحد الزبائن قبل الثانية عشرة ظهراً كي يتمكن من لقاء رئيس الوزراء على مأدبة الغداء المقررة في الواحدة ظهراً، ويبدو أنّ هذا العمل أخذ منه وقتاً إضافياً فتأخر بعض الشيء عما كان يخطط له.
خلع أبو سليم مريول العمل بنوع من العجلة ثمّ غسل يديه ووجهه بالماء وهو يردد: توكلنا على الله، يا رب تفرجها، توجه نحو سيارته القديمة "كيا" موديل (1995) ومعه ظرف بنّي اللون فيه شهادات ابنه وسيرته الذاتية، قاد سيارته من بلدة الحصن وأخذ يشد على ضاغط البنزين ميمماً نحو السوق "وسط البلد في اربد" إلى مضافة التل، وفي طريقه صار يتخيل حواراً قائماً بينه وبين رئيس الوزراء؛ حيث كان متوسطاً في صدر المضافة وحوله المعازيب وحرسه الشخصي يخدمه، وأبو سليم يقابله قائلاً: دولة أبو فوزي الله يمسيك بالخير، أنا داخل على الله ثم عليك، ابني سليم تخرج إعلام من جامعة اليرموك وأريد أنْ تتوسط له بوظيفة إعلامية بأي مكان حتى لو كان دخلها 300 دينار، بادره رئيس الوزراء ضاحكاً مستبشراً: أبشر يا أبا سليم بوظيفة لابنك، كل الوظائف على حسابك، وابنك سليم سنعينه ناطقاً إعلامياً لرئاسة الوزراء براتب 6 آلاف دينار وكل سنة سنزيده علاوة على راتبه ألف دينار! أنت مواطن صالح وابنك لا بدّ وأن يأخذ دوره والمستقبل للشباب.
لم يوقظ أبا سليم من سرحانه سوى كاميرا رادار السرعة كانت قد لمعت في عينيه من مرآة المشاهدة الخلفية في الطريق الذي هو قبل مستشفى الراهبات الوردية وعند صالات الأفراح؛ حيث إن السرعة المحددة على هذا الطريق 80 كم، وتكلفة تجاوزها 100 دينار، تألم أبو سليم من هذه المخالفة وصاح بأعلى صوته: الله لا يشبعكم.
وصل أبو سليم إلى محيط المضافة، لكنه لم يجد مكاناً يوقف سيارته فيه لكثرة الزوار والمحتشدين، فتش عن أماكن قريبة لم يجد! حتى قاده ذلك إلى مكان يبعد 300م عن المضافة بعد تقاطع شارع الرشيد مع شارع فلسطين، هناك ركن سيارته وترجل منها يهرول نحو الجموع فانقطع نفسه وزادت دقات قلبه، وكاد يتوقف نبضه فهو يعاني من تصلب الشرايين وما لبث أن وصل حتى كان رئيس الوزراء يهم بركوب سيارته مغادراً فعالية الغداء التي أقيمت على شرفه، والناس تتزاحم عليه لوداعه.
من بين الحشود كان هناك صوت جريء يصيح عالياً: لو أنّكم ترخصوا الأسعار دولة الرئيس، الناس جاعت وقتلها الجوع، والله على الساعة ثلاثة صباحاً النساء قبل الرجال يقمن بالبحث عن لقمة الطعام في الحاويات، لقد جاعت الناس!! طفرت!! أكلت روح الخل!! وهذه الجموع تسمعني إن كنت أكذب أم لا، أقسم لك يا دولة الرئيس أنّكم إذا ما رخّصتم الأسعار فإنّ ذلك أفضل لكم من "حِجّة" عند الله.
ويبدو أنّ رئيس الوزراء لم يفهم كلام الرجل كثيراً فقال: "هاه"، ومضى يركب سيارته وحرسه الشخصي ذوو النظارات السوداء يمنعون الناس من الاقتراب منه، حتى انفضوا من حوله شيئاً فشيئاً ولم يبقَ إلا أبو سليم يجلس على الرصيف يندب حظه وقلة بخته والدمعة تنزل من عينيه، فلا أمل هناك في ظل حكومات لا تفهم معاناة شعوبها، ولا مستقبل للشباب في ظل تدويل المناصب وتوريثها، ولا تنمية حقيقية طالما أنّ جيوب المواطنين هي غاية الفاسدين ومبتغاهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.