هذه الرحلة لم يمسّها أي طيف من خيال الكاتب.. سأذهب بك إلى المحطة "الثالثة" في رحلتي "بالترتيب الزمني":
بصوت متهدج خافت: "أنا فين"، "طب إحنا رايحين فين"؟!
يستغيث كالأعمى في ظلمات التيه العقلي ومرتدياً لباس الخوف لطفلٍ فقد جميع مَن حوله، ويلوذ بمن بجواره في العربة، غير أنه لا يجد غير الصمت منهم أو "محدش يعرف حاجة"، يدرك وقتها أن يستغيث بخصومه!
لكنهم أسوأ من خصومه، فهم يرونه من "أعداء الوطن"، وكذلك هو أسوأ من الأعمى؛ فالأعمى يعمل عقله بخلايا الاعتياد المخلقة من أثر فقده لبصره، وتسبح روحه وهي مرحة في سماء الرضا، وأن ليس له من أمره شيء.
أما أنا.. فأنا أعمى مصطنعٌ بذلّ "غمامة" سوداء عصبوا بها عيني، ومقيد بـ"كلابش" يكبلني عن إعادة رؤيتي.. ذل فوق ذل، وظلام عينين ملتحف بسواد عجز.
تسير العربة سريعةً جداً، فأرتطم بالحرس بجواري وبسقف السيارة، فليلاً نسير من مركز الشرطة التابعة له قريتي، ولكن إلى أين؟! لا أدري.
ظللت كثيراً أجهد خلايا عقلي وذاكرتي كي أدرك أأنا ذاهب إلى القاهرة "لاظوغلي" أم إلى سجن "العازولي" العسكري، أم إلى مديرية الأمن بمحافظتي؟! فكل الاحتمالات واردة بالتساوي في عقلي، وكلها ظلمات بعضها أسوأ من بعض.
ريقي يجف، وخلايا عقلي وقلبي مضطربة، وروحي محبوسة في ظلمات عينيي المعصوبتين.
سأعود قليلاً للوراء إلى المحطة "الثانية"، فرحلتي هي محطات مرتبطة ببعضها البعض، بكل ألغازها ومفاجآتها وروحانيتها، لقد جاءوا بي إلى قسم الشرطة بعد اعتقالي من قريتي ووضعوني في غرفة مباحث تسمى "البلوكامين"، وحتى تلك اللحظة لم أشعر -حقيقتةً- بأنني معتقل، فما زلت حراً في بنان عقلي، وبين الفينة والأخرى أسعى إلى الهروب من هذا المكان أو الحدث.. نعم "الهروب"، فمنذ دقائق معدودة كدت أهرب وكنت على بعد أمتار من الحرية التامة لولا ما أصابني من قدر الله، وروحي ما زالت تهرول في جنباتي وتأخذني وعقلي في أطراف المكان بحثاً عن الثغرة.
وفجأة أتى أحدهم ووضع القيد "الكلابش" في يدي وفي حديد شباك الغرفة الحديدي، لم يقيدوا وقتها يدي، بل قيَّدوا روحي، هذه اللحظة لا أنساها ما دمت حياً، هي أول لحظة لي حقاًفي عالم الأسر.. لقد صرت "أسيراً"!
ضاقت عليَّ الدنيا بما رحبت، وضاقت عليَّ نفسي وباتت أنفاسي تزفر "أفٍ"، وخاطبت الله غضبا -وأستغفره- من قضائه: "لماذا يا رب؟!"، "ليس الآن يا رب"، "لا أستطع يا رب"!
ثم جاء رد الله سريعاً من كلامه، في قلب هذا المكان الظالم ومن "راديو" يُقرأ منه قرآنه، لقد كان الشيخ مصطفى إسماعيل يرتل من كلام الله، قرأ "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، لم أسمع غيرها ولا قبلها ولا بعدها.
هذه الآية من أسبوع مضى سمعت تفسيرها قدراً من الشيخ الشعراوي، قائلاً: إن الله لا يكلف نفساً ولا يبتلي عبداً ببلاءٍ إلا وهو يعلم أن عبده يستطيعه وقادر على تحمله!
لقد كان الرد: يا عبدي أنت لها، فاصبر واستعن بي.
لا أعلم ما حدث لي، غير أن روحي قد حلّقت من جديد، لقد أصبحت روحي حرة ثانيةً..
سأعود للوراء كثيراً إلى محطة تراءيتها كانت "الأولى" في رحلتي.
منذ ما يقارب العشر سنوات، بينما أنا في المنزل وأضع "فيشة" الكهرباء -وأنا غير منتبه- في منفذ الكهرباء في الحائط، حدث ما لم أفهمه، غير أنني رأيت حياة أخرى لا هي موت ولا هي حياتنا العادية، هي منطقة رمادية بينهما، ألم قوي لحظي لم تستطِع الروح فك شيفرته، ولم تدرك المشاعر حدوده إلا في صرخة عالية، فوقعت غير متزنة.
ما هذا؟! لا أعلم، كنت أتمنى أن يطول حتى أفهم هذا السرداب الذي سافرت فيه للحظة.. لقد صعقت كهربائياً!
وهذه اللحظة كانت بمثابة طعنة صغيرة لي من شبحٍ -رأيته فيها- وربما سأقابله في "الجحيم" الآتي.
سأرهق ذهنك قليلاً وآخذك إلى مطلع حديثي، وأنا ذاهب كالأعمى إلى المجهول!
أخيراً حللت اللغز: عرفت أين سأذهب تحديداً، بتقدير المسافات لقد وصلت للتو إلى ما أظنه أهون الاحتمالات: "مديرية أمن الفيوم"، أو ما يعرف وقتها في أواخر صيف 2014 بـ"سلخانة الفيوم"!
دخلت المحطة "الرابعة"، وبينما أصعد سلالم ضيقة، وأسير في طرقات طويلة معصوب العينين ومقيد اليدين وأحدهم يسحبني كعدو أسير أو قل كعهدة ثقيلة على روحه، وشبح الهدوء المرعب يخيم على المشهد، فجأة صعقني هذا الصوت.. عسكري بلهجة صعيدية ساخراً ومتشفياً: "يا مرحب بيك في الجحيم".. وقد صدق!
كانت هذه اللحظة على نفسي كالموت: فهو خبرٌ بأن ما قبله هينٌ مقارنة لما بعده، انتقلت لتوّي من عالم الأحياء إلى عالم القبور، غير أنها قبور طغيان ولا عدل فيها ولا رحمة!
الآن أسوأ المحطات.. "السادسة"
على كرسي حديدي أجلس معصوبَ العينين ومقيداً من قدمي ويدي خلف ظهري، ومكتوفاً كذلك من صدري، أصرخ صرخات مدوية، بينما أحدهم يقهقه كالشيطان، ويزيد "فولت" الكهرباء على جسدي الهزيل المُعدم تعذيباً، ويلحن ساخراً -بفمه الشيطاني- ازدياد فولت الكهرباء كالذي يقلد صوت زيادة سرعة السيارة!
هذه اللحظة تحديداً أتذكرها بدقة، كانت أشد اللحظات في رحلتي ألماً على جسدي، ولا أخفيكم سراً لقد شارفت على الموت حينها ورأيت -حقيقة-روحي وأحسستها، وكأنها تتجمع في داخلي وتخرج من قدمي وذراعي وتصعد إلى صدري حتى بلغت الحلقوم.
في هذه اللحظة روحي -قل- خرجت وطارت إلى عنان السماء، ووصلت لأعلى نقطة للإيمان لم تصلها من قبل أبداً، صرخت صرخةً سمعت صداها في الأرجاء، لم تكن كمثيلاتها "آه" أو كسابقاتها بصوت فارس مطعون ويجمع حروف الكلمة بصعوبة بالغة كي يلفظها، بل كانت تلك الصرخة الروحية اللفظية هكذا بكامل الوضوح والقوة.. "ده ليك ياااااااااااااااااااارب"!
لم تنتهِ الرحلة بعد.. لنا بقية حديث بإذن الله..
ملحق: تناسيت المحطة الخامسة عمداً؛ لآخذك إليها لاحقاً، فبها المشاهد الكثيرة، وتوقف القطار عندها طويلاً ولم يتسع المقال لذكرها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.