التطبيع الثقافي.. يوسف زيدان نموذجاً

اتَّهم هذا الأخير صلاح الدين الايوبي بأنه ارتكب جرائم خطيرة في حق الإنسانية، بإبادته الأسرة الحاكمة الفاطمية في مصر، إبان الحروب الصليبية لتدعيم نفوذ سلطته، كما نفى تلك الصورة المشهورة عنه في التاريخ الإسلامي، كرمز ديني، ومحرر للبيت المقدس بعد الانتصار على الصليبيين في معركة حطين.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/13 الساعة 04:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/13 الساعة 04:24 بتوقيت غرينتش

ماذا عَمِل بنا الغربُ نحن الشرقيين؟.. لقد احتقر دينَنا وفِكرَنا وأدبَنا ماضينا وتاريخنا… لقد استصغرَ كلَّ شيءٍ لنا.. إلى حدِّ أخَذْنا معه نهزأُ بأنفسِنا (المفكر الإيراني علي شريعتي)

لكلِّ أُمةٍ تراثُها الحضاري الذي تعتزُّ به، وترجع إليه في ساعات شدتها ورخائها، يمثل ذاكرتها الجماعية، وخلاصة إنتاجاتها الأدبية والفنية ومنظومتها القيمية والرمزية، ولعل ما يميزنا كأمة هو تنوعنا العرقي والإثني والديني، الذي انصهر في كتلة حضارية عريقة وغنية بروافدها الثقافية وبرموزها التي ما زالت تحظى بالإعجاب والتقدير، ويرجع إليها في أوقات المحن كمصدر للإلهام، خاصة الأبطال الذين ارتبطوا بذكريات المجد والعزة.

ورغم النكسات التي ابتلينا بها في تاريخنا المعاصر، والهزائم العسكرية ظلَّ التراثُ الحضاري الغني برموزه الدينية والقومية على الدوام ذلك السند العاطفي، والنِّبراس الذي لطالما تم الاهتداء به حتى في أشد فتراتنا سواداً، وجسَّد في الوقت نفسه مقوماً للوحدة والتماسك.

ولكوننا نواجه صداماً حضارياً، يحمل لواءَه كيانٌ صهيوني جرى غرسه في جزء حساس من المنطقة العربية، يحاول تفتيت ما تبقَّى من وحدتنا وإضعاف صمودنا، فقد جرى استهداف مقومات هويتنا الحضارية، واختراق ثقافتنا العريقة لتسهيل عملية الإخضاع والهيمنة، التي صارت تتقدم بوتيرة متسارعة.

التطبيع ببعده الثقافي
لا يخفى على أحد محورية القضية الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي، لما تحمله من أبعاد دينية وقومية وعاطفية، لذلك لطالما شكَّل حلم استرجاع الأرض المحتلة أملاً راوَدَ الشعوبَ العربية الإسلامية، معتبرين إياه الخطوة الأهم نحو استرجاع أمجاد الماضي والتحرُّر من التبعية.

ورغم حجم الموارد العسكرية والبشرية والكلفة الباهظة من الطرفين، في جلِّ محطات الصراع الإسرائيلي، فقد تبيَّن للجميع استعصاء حسم الصراع بالوسائل العسكرية، خاصة الكيان الصهيوني، لذلك شرعت دوائر صناع القرار بها في اللجوء إلى القوة الناعمة، بهدف إيجاد حلٍّ سلمي وضمان الاستقرار المنشود.

إن أهم ما ترسَّخ في العقل السياسي الصهيوني طيلة عقود من الصراع مع العرب هو كونها موجودة في بيئة عدائية لها على جميع المستويات، فكان لزاماً عليهم أن يشرعوا في عملية التطبيع، أي جعل العلاقات مع الجيران العرب طبيعية، ومع تراجع الفكر القومي الذي شكَّل التهديد الوجودي والخطر الأكبر للوجود الصهيوني في فلسطين، تم الشروع رسمياً في البحث عن حلٍّ سلمي عبر المفاوضات والاتفاقيات المبرمة مع الأنظمة العربية أولاً كمصر، ثم منظمة التحرير الفلسطينية بعد ذلك.

وكامتداد للتقارب السياسي استند صناع القرار الصهاينة على الآليات الثقافية لتحقيق نفس الأهداف، عبر الترويج لخطابات تعد انقلاباً خطيراً في السيكولوجية الجماعية للعرب، وأمام افتقارهم لثقافة بديلة يمكن لها اختراق المنظومة الحضارية والثقافية العربية، فقد تم توظيف وسيلة جديدة قائمة على شطب هوية الآخر ودفعه إلى التشكيك في قِيَمه، ورموز دينية ووطنية، وإفراغ تراثه من كل قيمٍ إنسانية وحضارية، كآلية لضمان بقاء كيانهم بهدف إضعاف العدو بجميع الوسائل، مع التأكيد على أن هذا الدور لن تقوم به إسرائيل، بل العرب أنفسهم باستقطاب المفكرين والثقافيين لتنفيذ هذا المشروع.

تصريحات يوسف زيدان حقائق تاريخية أم تطبيع ثقافي؟
يعد يوسف زيدان من أكثر المفكرين إثارةً للجدل على الساحة الفكرية والثقافية في العالم العربي، خاصة بعد تصريحاته الأخيرة، التي وصف فيها القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي بأقذع النعوت والصفات، البعيدة عن الحقل المعرفي، والتي لا تتناسب حتى مع الباحث المبتدئ، فما بالك بمفكر من حجمه.

اتَّهم هذا الأخير صلاح الدين الايوبي بأنه ارتكب جرائم خطيرة في حق الإنسانية، بإبادته الأسرة الحاكمة الفاطمية في مصر، إبان الحروب الصليبية لتدعيم نفوذ سلطته، كما نفى تلك الصورة المشهورة عنه في التاريخ الإسلامي، كرمز ديني، ومحرر للبيت المقدس بعد الانتصار على الصليبيين في معركة حطين.

وفي السياق نفسه واصل ادعاءاته باعتبار شخصية صلاح الدين أسطورة جرى تضخيمها خلال الفترة الناصرية، خاصة بعد فيلم يوسف شاهين، لتحويلها إلى رمز موحٍ بمعانٍ نبيلة ومقدسة في الذاكرة الجماعية للعرب، خاصة مع احتدام الصراع العربي الإسرائيلي، خدمة للأيديولوجية الرسمية للنظام الناصري.

إن سياق الهجوم على صلاح الدين الأيوبي في هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا لَيُراد به بثُّ روح الانهزامية والخنوع في وسط الجماهير العربية، خدمة للمشروع الصهيوني، الذي يستهدف نسفَ ما تبقَّى من مقومات الهوية الحضارية لأمتنا التي ظلَّت على الدوام عصيةً على الإخضاع.

فإذا كان مسوغ هذا الباحث والمفكر، الذي لا يمكن إنكار فضله ومكانته الرفيعة هو تمحيص التراث وتنقيته خدمة للعلم وتطويره، فهذا افتراء، وحق أريد به باطل، لسبب بسيط هو عجزه عن تحقيق الموضوعية، وحشر لمواقف الذاتية في أبحاثه التاريخية، وبذلك يكون قد خرق أحد شروط البحث العلمي الرصين.

إن هذه التصريحات لا يمكن عزلها عما سبقها، فلهذا المفكر سوابقُ أخرى تنحو في نفس الاتجاه، فقد أنكر فيما مضى وجودَ المسجد الأقصى في القدس، وزَعَم أن مكانه الأصلي هو الطائف بشبه الجزيرة العربية، وبالتالي إفراغ الحق بالمطالبة بفلسطين من أي بعد ديني، وجعلها قضية سياسية محضة.

هذه الآراء لا يمكن اعتبارها مجرد استنتاجات، تم التوصل إليها بمنهج علمي واضح قوامه التدقيق في الروايات التاريخية للوصول إلى أحكام ثابتة، وإنما يَقصد بها مرامي خطيرة، يمكن استنباطها من دلالة اختيار هذه الرموز الدينية بالذات، في وقت يعج بالتنازلات العربية، وانحدار القضية الفلسطينية إلى قضية ثانوية لدى الأنظمة العربية.

إننا أمام مشروع متكامل يُشارك به مثقفون جرى استقطابُهم لخلق أجيالٍ جديدة بلا هوية ولا إرث حضاري، عبر الطعن في رموزهم التاريخية كصلاح الدين، وتصويرهم على أنهم مستبدُّون وطغاة ومجرمون، وتجريدهم من كل الصفات الشائعة عنهم، وبالتالي إنتاج إنسان عربي مهزوم ومعزول ومنفصل عن واقعه السياسي بلا شعور وطني أو قومي.

إننا مطالبون أكثر مما مضى بإحياء تراثنا التاريخي وتمحيصه، ليس من أجل تغنٍّ بأمجاد الماضي، وتفاخر بإنجازات الأسلاف، ولا محاكاة سير الماضين التي تجعل من الأموات أحياء والأحياء أمواتاً، فذلك الأمر لا ينفع في شيء، وإنما الغاية والقصد من وراء ذلك إحياء روح حضارية وهوية جامعة تقينا خطر الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية التي انزلقت فيها منطقتنا، تجنِّبنا مشاريع الإخضاع والإلحاق التي تستهدفها.

ومن يدرس نهضة الشعوب وبعثها يرى بوضوح المنطلقات التراثية في بناء الدولة الحديثة، وخلق رابطة ولُحمة وطنية، ولعل نموذج روسيا في عهد بوتين خير مثال على ذلك، بهدف تدعيم التوجه الجديد لسياسات روسيا الخارجية، القائمة على مقارعة الغرب كنِدٍّ حضاريٍّ وسياسيٍّ، بَعَثَ بلدَه من جديد كقوةٍ عالميةٍ، جرى إعادة خلق تواصل مع الماضي والإرث الحضاري الروسي، بإحياء رمزٍ قوميٍّ هو القيصر الروسي بطرس الأكبر، من خلال المناهج التعليمية، والبرامج الإعلامية، لخلق سيكولوجية جماعية قوامها الاعتزاز بالماضي والتشبُّث به.

إن التراث بما احتوى من رموز وخصوصيات قيمية، ذاكرة جماعية ومصدر إلهام لشحن الهمم حرِيٌّ بالمثقفين أن يستمدوا منه إبداعاتهم عوضَ ترسيخ ثقافة جَلْد الذات، بالنَّيْل منه وإفراغه من كلِّ محتوى إنساني وحضاري، فالأمة التي تنسلخ عن ماضيها لن يستقيم حاضرها، وهي في الآن ذاته مُعرَّضة للضياع بلا شك.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد