لا شك أن صلح الحديبية حلقة مهمة في بناء الدولة الإسلامية التي أثرت بشكل رائع وملموس في مسيرة الدعوة إلى الله، على المستوى الحركي ككيان منظم، وعلى المستوى الدعوي كرسالة تبتغي النجاة لجميع الناس وفق عقيدة صلبة قوية تقدر الإنسان، وتعظم دوره وتوظف الطاقات، بمعطيات وثوابت وأصول.
وفي هذا المقال سنتحدث عن صلح الحديبية من زاوية ونظرات تجمع بين السياسة والواقعية.
النظرة الأولى
موقف تعامل المشركين مع مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم، سيدنا عثمان، حيث قاموا بإخفائه أو كما قالوا له في حينه: "ستقيم معنا حتى نصل لرأي واحد"، وأشيع وقتها أنهم اغتالوه.
وهنا بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، للقصاص من قتلة عثمان، وهو ما أثار الرعب في قلوب المشركين، وهنا تكمن النظرة، فالتجرد الصادق لنصرة الدين والقصاص من الظالمين المعتدين على رجال الدولة والسفراء وقيادات الدعوة التي تشق طريقها بتوفيق الله وفهم قائدها الأكرم صلى الله عليه وسلم، وعدم التأخر في الردع، بل والضغط بقوة حتى تحقق ما يريده رغم معارضة البعض.
النظرة الثانية
الصلح كان نصراً عظيماً للمسلمين، ودلالة قوية على وعي القائد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ومدى رقي فهمه ونظرته البعيدة وقراءته المبصرة للحدث، رغم تحفظات كثير من الصحابة وعلى رأسهم الفاروق عمر رضي الله عنه، وكتب السيرة تذكر الحوار الذي دار بين الصديق أبي بكر والفاروق عمر رضي الله عنهما، وكان فحواه غضب الفاروق من شروط المشركين، وتعجبه من موافقة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، فقال له الصديق كلمة تنمُّ عن ثقته في فهم وذكاء القائد "يا عمر إنه رسول الله ويأتيه الوحي فالزم غرزه".
وهنا تكمن القدرة على امتصاص غضب البعض وتحويله إلى طاقة مثمرة تؤيد خطوات القيادة، طالما كانت تلك القيادة تعي حجم الصعاب والمعوقات، وتدرك قدرات صفَّها، وتكون الشروط بالرفض أو القبول مرهونة بالواقع متماشية معه، وفي الوقت نفسه لا تبتغي نصراً رخيصاً.
النظرة الثالثة
بُعد النظر أثناء إجراء الصلح، فرض واقعاً جديداً متمثلاً في عدة أمور هامة وقوية في مسير الدعوة، فهو اعتراف ضمني بكيان مستقل لدولة الإسلام وقوتها العسكرية الموجودة القادرة على الردع، ومن ثم فالأمور على الأرض اختلفت بعد الصلح.
الأمر الثاني، يعتبر توقيع الصلح باب تحييد لقريش ولو لفترة مؤقتة، وهو ما يفتح مجالاً للانفراد باليهود وتعطيل خططهم وضرب مكرهم.
وأيضاً أحدث الصلح واقعاً سياسياً جديداً وهو الدخول في حلف مع قبيلة خزاعة.
لكن يقيناً يبقى المكسب في ثبات أهل الحق وقوة الإيمان، حتى ازداد الذين آمنوا إيماناً، وثبتت العقيدة في قلوبهم وعقولهم، وظهر للقيادة مدى جسارة جنودها وحبهم لها، حتى قال أحد المفاوضين من قريش "لقد حضرت الروم في ملكهم، وفارس في عزهم، فما وجدت أحداً يُجله ويوقره ويحبه أصحابه مثل حب أصحاب محمد له".
النظرة الرابعة
لقد كانت ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بربه قوية وثابتة، حتى قال لأصحابه: إنه ربي ولن يضيعني. فهدأت النفوس واطمأنت القلوب والعقول لكل من حول النبي صلى الله عليه وسلم.
فرغم أن الصلح حرمهم من زيارة البيت الحرام، وهو الذي ظلَّ يرى في منامه أنه يعتمر، وبرغم شوقه العظيم وصحابته الكرام للطواف وشوقهم الأعظم للوطن الذي خرجوا منه مطاردين، إلا أنه صلى الله عليه وسلم وعد أصحابه بالخير، وارتضى تلك البنود وعاد للمدينة، والكل في شعور عام بالحرمان والحزن، لكن وجود القيادة الواعية التي لا تقبل بسفاسف الأمور، وتعي طريقها وتدرك أن العاقبة للمتقين وأن النصر مع الصبر، وأن الأمور تجري بمقادير الله، وما يعتقده البعض هزيمة ربما تثبت الأيام أنه نصر عظيم بتوابعه ونتائجه، والوقوف عند الشعور بالضيق لن يفيد، فالعمل هو المقياس والميراث الصالح، مع الأخذ في الاعتبار أنه أحياناً تتنازل القيادة عن مسارٍ ما إذا اقتضت المصلحة ذلك، وكانت النتيجة مثمرة في حينها.
النظرة الأخيرة
إن من عوامل حسن التصدر للمشهد وإدارته في التفاوض أو المبادرات كما حدث في صلح الحديبية، أن تكون ملماً بالواقع الذي تحياه، وتجيد الفصل تماماً بين الواقع السياسي للعرض كصلح، والواقعية السياسية لوضعك، وهنا تكمن خبرة النبي صلى الله عليه وسلم في موافقته على الصلح، والمآلات الناتجة عنه، والأعظم من ذلك هو انقياد الصحابة وفهمهم لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فطالما كانت هناك رؤية واضحة من القيادة، وإصرار أوضح على المسير بفهم وبناء كان المسار مطمئناً، وكان الجنود بارعين في تحقيق كل ما يخدم نجاح الرؤية والهدف.
ختاماً
ما أحوجنا نحن كإسلاميين إلى مدارسة صلح الحديبية من زوايا مختلفة، ونظرة جديدة تضيف لعقولنا، ونبني عليها فهماً، ونزداد لفكرتنا عشقاً، ولدعوتنا عملاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.