التغيير الذي نرومه في الجزائر.. من أين يبدأ؟ “1”

الجزائريون عن بكرة أبيهم -أياً كانت مشاربهم ومنطلقاتهم- يحلمون بوطن يرقى إلى مستوى تضحيات الجيل الأول من الشهداء، قد يختلفون في تصورهم للتغيير والتحسين الذي يحتاج إليه المجتمع، لكنهم يتفقون في التوصيف أننا خسرنا الكثير من مكتسباتنا الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/03 الساعة 07:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/03 الساعة 07:48 بتوقيت غرينتش

الجزائريون عن بكرة أبيهم -أياً كانت مشاربهم ومنطلقاتهم- يحلمون بوطن يرقى إلى مستوى تضحيات الجيل الأول من الشهداء، قد يختلفون في تصورهم للتغيير والتحسين الذي يحتاج إليه المجتمع، لكنهم يتفقون في التوصيف أننا خسرنا الكثير من مكتسباتنا الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية؛ بل وضيعنا اتجاه البوصلة الذي يرشدنا إلى طريق النمو الذي أبدع بعضهم بالقول إنه "إما طريق طويل وإما أننا أخطأناه".

وهذا كناية على استخدام الجزائر الرسمية عبارة "دولة في طريق النمو" عقوداً من الزمن، وإذا كنا اليوم نبدع في توصيف ما وصلت إليه الجزائر من ميوعة أتت على كثير من المستويات؛ بل وصلت إلى قلب مفاصل الدولة وفي مختلف ميادين الممارسة الإدارية- فإننا ما زلنا نهيم بالسؤال: من أين نبدأ؟

في الجزائر، أينما وليت وجهك تجد الناس صنفين؛ صنف ناقم على الدولة -كما يسميها الجزائريون في أدبياتهم (والقصد هو السلطة؛ أي المسؤولين، وهي واحدة من أخطائنا الجماعية وثقافتنا الجمعية)- بسبب عدم تمكنهم من إدارة الشأن العام، بدءاً من نظافة الشوارع والمدن، وصولاً إلى تسيير المطارات والمستشفيات، معللين ذلك بعدم وجود الأشخاص المناسبين في الأماكن المناسبة، وحتى بغياب رؤية واضحة مبنية على التخطيط واستشراف المستقبل.

وهي وجهة نظر صحيحة إلى حد بعيد، غير أنها تتسم بالاستغراق في الوصف والسرد، وتكرس في غالب الأحيان متلازمةَ "لا جدوى من فعل أي شيء". ولَكم هو مؤلم ومحزن لما تسمع ألسنة الناس تكرر أن "هذا الوضع وغيره يستحيل أن يتغير"؛ لأن التخلف حسبهم "متجذر في الجينات ومستقر منذ أجيال بعيدة"، قناعة تصل حد الجزم بأننا "لا يمكن أن نكون غير ما نحن عليه"، لكنها تُغفل سؤالاً جوهرياً: لم هم (كما يحب الجزائري أن يصف غيره من مكونات المجتمع) كذلك؟!

أما الصنف الثاني، فهو صنف يناقض الطرح الأول، معتقداً أن السلطة القائمة وفرت ما استطاعت إليه سبيلاً، وأنه لا يمكنها "أن تربي الأفراد فرداً فرداً"، وأن "تضع على رأس كل مواطن شرطياً" يحرص على انضباطه وتحلِّيه بالسلوكات الحضارية، وهي قناعة تدلل على أن المقاربة الأمنية انتقلت بعد سنوات من الممارسة الرسمية من طرف السلطات السياسية المتعاقبة، الى العقل اللاواعي للفرد، الذي يربط السويَّة باللمسة الأمنية "الحانية"؛ ما يشكل عبئاً إضافياً وتعقيداً جديداً يطرأ على العقلية الجزائرية.

وأضف عليه أيضاً أن الذين يتحدثون عن أن بني قومهم هم سبب التخلف والتراجع، يُغفلون أن الشعب نفسه بالجينات نفسها كان قبل سنوات يوقِّر الكبير ويحترم الجار ويقدِّس الشرف والأمانة، ويهتم بالأخلاق ويزرع الخير أينما حل وارتحل، ويُغفل أيضاً أن كثيراً من الممارسات الشعبية اليوم أنتجتها السلطة السياسية بوعي أو بغير وعي.

ولا أدل على ذلك من تغييب الجانب الأخلاقي والتربوي في فقه التعامل ممن يمثلون السلطة من وزراء ومسؤولين سامين في الدولة، والذين يتداولون على سب الشعب أو بعض الفئات الشعبية التي تختلف مع توجهاتهم وطروحاتهم.

وقد عايشنا مرافعات للعديد من المسؤولين لصالح التزوير والغش؛ لحماية "المصالح المرسلة"، فيما صرح بعضهم بعد صحوة ضمير بأنه لفَّق تهماً فظيعة ضد البعض الآخر، لقطع الطريق عليهم تجاه مناصب أو ترقيات معينة، وغيرها مما تأتيه السلطة السياسية، وتحاول عبثاً تحريمه على شعبها؛ ما يجعل اعتقاد أن التصرفات الرسمية براء مما نراه ونشاهده، طرحاً غير عقلاني ألبتة، ما دامت العديد من الجهات في السلطة تدعو، بشكل أو بآخر، المواطن لاستخدام الوسائل غير المشروعة وغير الأخلاقية لتحقيق المكتسبات، وقديماً قالوا: "الناس على دين ملوكهم".

هل تغير المجتمع الجزائري؟
لقد استرعت ظاهرة الحركة والتغير اهتمام الناس عبر العصور، وتصدرت في عصور عديدة مجالس العلم والنقاش والبحث؛ لما لدراستها وفهمها من تأثير وأهمية بالغة، تُمَكِّن الأفراد أو الجماعات، من فهم التغير الاجتماعي باعتباره ظاهرة اجتماعية قد تأخذ من الجيل السابق رصيداً معيناً وتكمل به المسار مستمِرةً عبر الزمن وفي المستقبل، مع إضافات جديدة يحكمها الواقع ومعطيات العصر ودوائر التأثير المختلفة؛ بل والمتضادة أحياناً.

والتغيير ببعديه، الكمي والكيفي، هو اختلاف شكل عن شكله الأصلي أو حالة عن حالتها السابقة، خلال فترة زمنية معينة، كما أنه غير محصور فقط في التغير الاجتماعي، بدليل روافد أخرى تتغير في حياتنا باستمرار، خاصة ما يتعلق بالنظم والأدوات وأنماط العلاقات والمعاملات وغيرها.

وفي هذا السياق، يحدد عالم الاجتماع غي روشيه 4 صفات لتعريف التغير الاجتماعي؛ وهي:
1- إذا كان ظاهرةً عامةً منتشرةً لدى فئات واسعة من المجتمع بحيث يغير مسار حياتها.
2- التغير الاجتماعي هو كل تحول يصيب البناء الاجتماعي.
3- يكون هذا التغير في فترة زمنية محددة.
4- اتصافه بالديمومة والاستمرارية.

وجدير بالذكر أن التغير الاجتماعي وإن بدا مصطلحاً ومفهوماً حديثاً، فإنه نتاج التطور الحاصل في علم الاجتماع المعاصر، بعد أن أخذ النقاش العالمي حول نظريات التقدم والتطور منحيين أساسيين؛ هما:

إحياء النظرية الدورية للتاريخ، وهذا ما عبَّر عنه الفيسلوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبينغلر في كتابه "انحدار الغرب"، حيث ورد فيه بأنه لا يرى بالنموذج الغربي لرؤية العالم وللمركزية الأوربية فيه، ويعتبر تقسيم التاريخ الى عصور زمنية تحاكي تطور الكائنات الحية خطأً فادحاً، كما يدعو إلى تبني التأريخ حسب الحِقب الثقافية.

أما المنحى الثاني، فاستبدل مصطلح التقدم الاجتماعي بمصطلح التغير الاجتماعي، وهو ما عززه كتاب "التغير الاجتماعي" لصاحبه وليام أوجبرن، والذي دعا إلى التفريق مجالي الثقافة في اعتقاده؛ ألا وهما: الثقافة المادية؛ أي الجانب المادي من الثقافة، متمثلاً في مجموع الأشياء وأدوات العمل والثمرات التي تخلقها، والثقافة المتكيفة، التي تضم العقائد والتقاليد والعادات والأفكار واللغة والتعليم، وهذا الجانب الاجتماعي هو الذي ينعكس في سلوك الأفراد في اعتقاده.

ويستمر في التوضيح قائلاً: "إن تغير الثقافة ضروري، يبدأ في مجال الأشياء والأدوات، ثم يمتد تأثيره فيما يُعدّل الجانب الاجتماعي، فالقوة المُغيِّرة عنده كامنة في الأشياء؛ لأنها تقبل التغير بأسرع مما تتقبله الأفكار".

وحقيقةً، يمكن على الأقل استشعار وجود تغير اجتماعي بالمفهوم الموضَّح سلفاً بوطننا الجزائر، ويا حبذا لو استطعنا تحسُّسه عبر دراسة متأنية تتناول بالتحليل والتفصيل معالم التغير الاجتماعي الأربعة، وتتناول أيضاً مصادر التغير وآلياته، وهي عموماً داخلية وخارجية.

أما الداخلية، فهي نتاج لتفاعلات مختلفة قد تؤدي إلى تشكيل وعي ينادي بالتغيير ويدعو له، وقد تتجلى دعوات التغيير على الصعيدين الرسمي أو الشعبي، على غرار قرارات إدارية إصلاحية خاصة في ميادين القضاء والتعليم مثلاً، كما يعبر عنها تبلور الوعي على شاكلة حركات إصلاحية أو تجديدية، تهدف إلى تغيير المجتمع عبر مشاريع محددة.

وهناك مصادر التغيير الخارجية التي لا يمكن تجاهلها في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه الموجة الضخمة من القنوات ومنصات الأخبار والتدوين، وقد كانت الجزائر شاهدة على استيراد العديد من الأفكار والمفاهيم والسلوكيات، ينضاف إليه التأثير الكبير للمنظمات الدولية واللوبيات العالمية في زمن الكارتل؛ لذا بات لزاماً علينا إدراك حجم هذه المصادر وتعريفها، وإيجاد الهيئات قبل الآليات لقياس أثرها.

وبالحديث عن الآليات، فإن المصادر الداخلية والخارجية تشترك أيضاً في الآليات، أهمها الانتشار والتفاعل؛ فعالم اليوم، الخالي من الحدود القديمة التقليدية، يسمح بمرور عابر للقارات للأفكار والمفاهيم، وكم شهدنا امتداداً مستمراً لتأثير أفكار مستوردة ومدى التأثير الذي أحدثته في بيئات محلية تبعد عنها بآلاف الكيلومترات!

ولا شك في أن وتيرة الابتكارات المحددة أيضاً لا تقل أهمية في إحداث التغيرات بالمجتمعات، ويعززها في ذلك الذكاء الذي تعدى الجانب الطبيعي إلى ما يعرف اليوم بالذكاء الاصطناعي، في زمن نعيش فيه ولا نستغني عن هواتفنا الذكية وسيارتنا الذكية في مدن ذكية، أسقطها التغير في الجزائر من أهدافه ومخرجاته.

هذا إذا سلمنا بتغير ليس بالهين حدث ويحدث في الجزائر، يحتاج تأملاً قد يسبق التفكير عن أي جهود للتغير الإيجابي، الذي لم تعد تكفيه النيات الطيبة، في وطن يعيش ظرفية دقيقة تداخل فيها الشأن الاقتصادي بالسياسي والاجتماعي تداخلاً، جعل من الجزائر واقعاً ومجتمعاً يشكل حالة خاصة بامتياز.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد