(1) لن أجدّد
أصبح هتلر مستشاراً لألمانيا بناء على الانتخابات البرلمانية التي جرت في (6 نوفمبر/تشرين الثاني 1932) والتي حصل فيها حزبه القومي (النازي) على نسبة 33% من الأصوات، وبعد تكليفه بتشكيل الحكومة في (30 يناير/كانون الثاني 1933) وفي يومه الأول كمستشار أعلن في أول خطبة له أنه لن يستمر أكثر من دورة تشريعية واحدة، وأنه سيطرح نفسه على الشعب الألماني مرة أخرى ليرى رأيه، وختم كلمته الطويلة جداً بقوله: "والآن أيها الشعب الألماني، أعطونا فقط أربع سنوات وبعد ذلك احكموا علينا وعاقبونا".
وفي اليوم التالي، أي بعد يومين بالضبط، أعلن هتلر حل البرلمان الألماني، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من انتخابه، ثم أعلن عن انتخابات جديدة بعد خمسة أسابيع (5 مارس/آذار 1933) مؤملاً اختراق حزبه النازي دوائر الأحزاب العمالية وتحقيقه للأغلبية المطلقة.
(2) احرق أو فجّر أي حاجة مهمة
وكان أخوف ما يخافه هتلر أن تقوم عليه ثورة شيوعية على النمط البلشفي قبل أن يثبت دعائم حكمه، وفقط بعد أربعة أسابيع من وصوله للحكم تم حرق مبنى البرلمان الألماني في يوم 17 فبراير/شباط 1933، وحتى الآن لم يحل هذا اللغز! ولكن قبض في الموقع على شاب هولندي في الرابعة والعشرين من عمره قيل إنه جاء لبرلين منذ عدة أيام اسمه (مارينوس فون ديرلوبه)، وفي أول بيان للبوليس من موقع الحريق ذكر أن مصادر الحريق أو المواد الحارقة وضعت في كل أدوار البرلمان من الدور الأرضي وحتى القبة، وأن أحد أفراد الشرطة رأى حملة الشعلات في كل الأدوار فأطلق النار وأصاب أحدهم (دير لوبه).
ثم وصل المسؤول عن شرطة برلين (هيرمان جورنج)، صديق هتلر المقرب، الذي أعلن مباشرة اتهامه للشيوعيين بحرق البرلمان، ومن ثم تم وصف "دير لوبه" بأنه "يساري متطرف".
وكذلك وصل هتلر إلى المكان وبدأ يقدم نفسه كمنقذ من الفوضى، فقال إن حرق البرلمان يمثل تهديداً كبيراً للديمقراطية التي يجلها ويقدرها، وإن ما حدث يثبت أن الشيوعيين يحاولون عن طريق الحرائق والإرهاب وإشاعة الرعب القيام بانقلاب ضد حكمه، وإنه سيقاوم إرهابهم المحتمل دفاعاً عن الشعب وحماية للدولة ومؤسساتها، وقال نصاً، كما في البيان الذي صدر عنه: "إذا كان هذا الحريق، كما أعتقد، من عمل الشيوعيين، فيجب علينا أن نقضي على هذا الطاعون الفتاك بيد من حديد"، ويشاع أيضاً أن مما قاله ولم يرد في البيان: "منذ الآن لا توجد رحمة، ومن سيقف في طريقنا سنمسحه من على وجه الأرض".
وفي ذلك اليوم أصيب الشعب الألماني، من العامة حتى النخبة البيروقراطية، بالهلع من فكرة الانقلاب على الدولة على النمط البلشفي. وفي الليل قبضت شرطة برلين على الآلاف، وهناك ظهرت خطورة التشكيلات شبه العسكرية للنازية من خلال "كتائب العاصفة" المعروفة باسم قوات الـ(SA) والقوات المنتخبة منها التي تعرف باسم "وحدات الإس إس" (SS)، وقد بدأت مباشرة أول عمليات التعذيب المنظمة للمقبوض عليهم.
وفي اليوم التالي مباشرة صدرت عدة إجراءات عرفت بين الألمان باسم "تنظيمات حرق البرلمان"؛ حيث قام هتلر بتجميد الدستور وإعلان حالة الطوارئ وتعليق حرية الصحافة ومنع حرية التجمع، كما منع الاتصالات مع الخارج.
وقد علل ذلك كله بضرورة فرض الأمن والنظام في ربوع الرايخ الألماني لحماية الدولة والشعب، وبدأ هتلر موجة مطاردة مميتة لكل معارضي النظام النازي، دون أدلة ودون أحكام قضائية، وقد وصل عدد المقبوض عليهم خلال شهر واحد فقط إلى 25 ألفاً وضعوا جميعاً في معسكرات وسجون سرية تحت حراسة كتائب العاصفة ووحدات الـ"إس إس".
ورغم الشكوك التي تثار كل فترة بين المؤرخين من أن هتلر والنازيين كانوا وراء حرق البرلمان، لكن الجميع يعترف بأن هتلر أجاد تقديم نفسه كمنقذ لألمانيا من أعدائها في الخارج والداخل، وقد وصمهم جميعاً بأنهم "أشرار".
وعقب ذلك ارتفعت شعبية هتلر وحزبه بقوة، وقد ظهر هذا في الانتخابات التي تمت بعد أسبوع واحد من حرق البرلمان، والتي كانت بمثابة "تفويض" لهتلر في كل ما فعله أو سيفعله.
(3) البرلمان البرلمان
وقد شهدت انتخابات 5 مارس/آذار 1933، أي بعد حرق البرلمان الألماني بأسبوع واحد فقط، إقبالاً كثيفاً من الألمان؛ حيث بلغت نسبة مشاركة بلغت حوالي 89%. وقد حصل الحزب القومي (النازي) على حوالي 44% من مجمل أصوات الناخبين، ورغم الإرهاب الذي مورس ضد الأحزاب الأخرى فقد حصلت على نسب لا بأس بها؛ حيث حصل الحزب الاجتماعي الديمقراطي (SPD) على أكثر من 18%. بينما حصل الحزب الشيوعي الألماني (KPD) على أكثر من 12%.
وهذا يعني أن حزب هتلر لم يحصل على الأغلبية المطلقة كما تمنى هتلر؛ لذا اضطر الحزب للتحالف مع أحد الأحزاب الصغيرة المتطرفة وهو "حزب الجبهة القومية الألمانية" الذي حصل على 8% من مجموع الأصوات. وفقط بسبب هذا التحالف وصلت النسبة إلى قرابة 52% وبالتالي حاز الحزب القومي (النازي) على الأغلبية، وأصبح هتلر وبشكل رسمي حاكماً مطلقاً. وبعدها مباشرة بدأ يتخلص من الأحزاب المنافسة بطرق مختلفة إما عن طريق الاستيعاب والهضم مثلما حدث مع حزب الجبهة القومية الألمانية الذي حل نفسه بعد أربعة أشهر فقط واندمج بذلك عملياً في الحزب النازي القومي.
وفي الثامن من شهر مارس تم إلغاء أصوات الحزب الشيوعي الألماني (KPD) بسبب "تنظيمات حرق البرلمان"، وبالتالي طردت كوادره من البرلمان. والغريب أن الحزب الشيوعي لم يتم تحريمه رسمياً تحت الحكم النازي! أما الحزب الاجتماعي الديمقراطي (SPD) فقد انكمش بسبب مطاردة كوادره، وهروب قادته إلى براغ في مايو/أيار 1933، وقد تم منعه رسمياً في 22 يونيو/حزيران 1933.
وقد حاول قادة الحزبين الذين هربوا للخارج تنظيم مقاومة النازية في الداخل، ولكنهم لم يفلحوا لأن بنية الحزبين كان قد تم تدميرها تماماً.
(4) لا حوار ولكن سجون ومعتقلات
ومباشرة بدأ هتلر في تنفيذ مشاريعه الكبرى وأولها شبكة السجون الضخمة، والحقيقة فإن هتلر الذي فشل في دراسة الفنون كان مولعاً ببناء السجون ومعسكرات الاعتقال الضخمة، ولأنه بدأ مشواره في بافاريا وحصل فيها على أغلب أصواته الانتخابية، فقد حظيت هذه الولاية سريعاً وقبل غيرها بأول عرض متكامل للنظام النازي؛ حيث بني لها في مدينة "داخاو" (Dachau) بولاية بفاريا أحد أول السجون النازية وأضخمها، أو كما قيل معسكر الاعتقال النازي النموذجي.
وقد تم هذا الموضوع بسلاسة غريبة؛ فبعد أن حصل هتلر على الأغلبية في البرلمان وتخلص من الأحزاب المنافسة قام بتعيين رئيس وزراء جديد لبافاريا وبعث رئيس قوات الصاعقة ورئيس الوحدات الخاصة ليقنع رئيس الوزراء القديم (جوستاف ريتر) بالاستقالة، وكان ريتر لا يقل عنصرية عن هتلر، ولكنه كان قد رفض قديماً مساعدة هتلر في محاولته الانقلابية في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1923. وبعد أن أتما المهمة طلبا في 12 مارس/آذار من رئيس الوزراء الجديد القبض على كل المعارضين السياسيين لهتلر، وأولهم رئيس الوزراء المُقال جوستاف ريتر. وكان من بين المعتقلين أيضاً وزير داخلية بافاريا السابق (كارل شتوتسل)؛ لأنه كان قد منع هتلر من الخطابة سنة 1925 فاقتحموا عليه منزله بالبيادات العسكرية وجاءوا به من سريره وهو يرتدي قميصاً فقط.
وعندما تزايد عدد المعتقلين، خاصة من الشباب المسيس، كان لا بد من بناء سجون جديدة، وفي 20 مارس/آذار 1933 افتتح هاينريش هيملر (رئيس شرطة بافاريا الجديد) أول معسكر اعتقال نازي شرق مدينة "داخاو"، وكانت سعة هذا المعسكر في البداية خمسة آلاف معتقل فقط، وبعد يومين فقط وصل إليه أول 150 سجيناً، ومنذ البداية كان السجناء خليطاً من المعارضين السياسيين للنظام النازي، من اليساريين والشيوعيين والنقابيين واليمينيين، وكان بين اليساريين عدد من اليهود الألمان، وبعد فترة لحق بهم الغجر والمثليون وبعض رجال الدين.
وفي 11 أبريل/نيسان سلمت شرطة بفاريا المعسكر لوحدات الـ"إس إس"، وبذلك صودرت كل الحقوق القانونية للسجناء وأصبحوا تحت رحمة ومزاج قوات الحرس العسكري الرهيبة، وقد عين كرئيس لهذه القوات أحد محترفي التعذيب واسمه تيودور أيكة Eicke الذي تمكن وقوات الـ"إس إس" من جعل "معسكر داخاو" نموذجاً لكل معسكرات الاعتقال النازية التي أنشئت فيما بعد، وكانت إشاعات الرعب عن المعسكر وما يحدث فيه تنشر بين الشعب الألماني بكل حرفية وعن قصد بهدف إرهاب خصوم النازية، وإصابة الشعب الألماني بالخرس، وقد نجحوا في ذلك لأبعد الحدود، وكان الشعب الألماني يعرف بما يحدث هناك، في معسكر داخاو، والدليل على ذلك المثل الألماني الذي يقول (Lieber Gott, mach mich stumm, dass ich nicht nach Dachau komm) ومعناه: "اللهم أخرسني حتى لا أذهب إلى داخاو"، ولكني لا أستبعد أن يكون المثل نفسه من ابتكار آلة الدعاية النازية!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.