خلال الثلاثة أيام الماضية، أخرج من المنزل في الساعة السابعة والنصف صباحاً، متوجهاً لإنجاز بعض الأعمال، وأعودُ إلى المنزل بعد الثانية ظهراً، أتنقل من مكانٍ إلى آخر في قلب مدينتي، العاصمة بغداد.
أثناء هذه الرحلة المملة والمليئة بالتعب والجهد والإرهاق، أجلس في سيارات النقل العامة؛ لأنظر من النافذة على حال مدينتي والفوضى العارمة فيها، رصدتُ ما دفعني لكتابة هذه الكلمات التي قد تكون غير مقبولة للبعض.
تمتلئ شوارع مدينتي بصور المعمّمين، والسياسيين، ورجال يرتدون الزي العسكري، من كل الطوائف والمذاهب السائدة في العراق.
وأرى أيضاً السيارات، والدراجات النارية والهوائية، مُطرّزة بصور بعض الرموز والشخصيات المهيمنة على ثروة الدولة العراقية.
ومن الصدفة أنَّ سائق السيارة التي كُنتُ فيها يضع هو الآخر صورة لشخصية دينية عراقية لها جمهور واسع من الناس بمختلف فئاتهم.
فتجرأتُ على سؤال السائق: لماذا تضع هذه الصورة؟ نظر السائق إليّ بنظرة غضب، ولكيّ أخفّف من وطأة السؤال ابتسمت، فذهبت تلك النظرة وبدأ يسرد لي قصة الصورة.
قال السائق: انظر يا عزيزي؛ هذا الرجل الذي في الصورة هو كل الخير والبركة!، وهو مَن جعلنا ننتصر على الظلم وعيشة الذل، وأعطى للعراقيين ما لم يعطِه الآخرون على مدى تاريخ هذا البلد العريق، وأنا أُحب وأعشق وأفدي هذا الشخص بدمي ومالي وعرضي وأولادي، ونحنُ (أشار بيده إليّ) كلنا ليس لنا قيمة من دونه!
كانت إجابة السائق صادمة، وكوني شخصاً يؤمن باختلاف الآراء وتقبلها، قلت له: أنا أحترمُ رأيك، لكن لا أتفق معه إطلاقاً حتى لو كلفني ذلك روحي ودمي وعائلتي وكل ما أملك!
اندهَشَ السائق من إجابتي وقال بنبرة غريبة تحمل نوعاً من الحقد: لماذا؟! قلتُ لهُ: ببساطة لأنك مخطئ؛ ذلك لأنَّ هذا الشخص مجرد إنسان، يوماً ما سيُدفن تحتَ التراب ويأكل الدود أصابعهُ التي سرقت أموال الشعب العراقي، وجعل من شباب هذا البلد – بكل مذاهبهم ودياناتهم – عبارة عن لعبة بيده، فأصبحوا مجرد أرقام لجثث لا بشراً يستحقون العيش أكثر من ذلك.
يا عزيزي السائق، لقد جعلت من هذا الشخص رباً، فأنت قلت إنَّ هذا المخلوق "خير وبركة"، أي خير هذا؟ وأنت سائق سيارة عامة لا يتجاوز دخلك في اليوم الواحد خمسين ألفاً، أو أقل، لدرجة أنك لا تغطي نفقات البنزين والصيانة، والمنزل والزوجة والأطفال، والأطباء والعلاج، والكهرباء والماء والطعام، ومصاريف الاتصال.
سكتَ السائق ولم أسمع صوتهُ، وبدأ يُشعل سيجارتهُ ويُدخن بهدوء، فأضفتُ للشعر بيتاً: حتى إنها لا تُغطي مصاريف التبغ.
ضحك السائق، وقال: نحنُ العراقيين نعبد البشر، ونحب أن نمجدهم حتى لو لم ينفعونا بشيء، فنحنُ شعب يشبه القطيع، يسير إلى الهاوية خلف كل من يلعب في عقولنا ويضحك علينا ويوعد الناس بأشياء لن تتحقق.
انتهى حديثي مع السائق هنا، ونزلتُ إلى وجهتي، وعقلي ممتلئ بأفكار غريبة، أين أنت يا الله؟! أين أنت من كل هذا؟! أرجوك ارحمنا فقد أضعنا الطريق واحترقنا.
أنا لا أنتقد أي شخص أو مذهب أو دين أو فكر، ولستُ مسؤولاً عما يعبدهُ الناس أو يؤمنون به، لكنَّ الغاية والرسالة من هذه الكلمات هو أن يستقل الإنسان ويتجرد من كل تبعية ويعيش حياته بحرية وكرامة واستقلال، يكفي أن نكون عبارة عن قطيع من الخراف ينساق بالعصا إلى التهلكة والموت والحرب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.