تتمّة..
لكن تبقى ثلاثة أحداث مهمة كانت داعمة قوية للقاعدة الصلبة التي بناها العدالة والتنمية طيلة فترة حكمه، وهي التي أظهرت أن عهداً قديماً بتركيا يلفظ أنفاسه وآخر يولَد من جديد، غايته جمهورية تركية مستقلة ناهضة وقوية.
الأحداث الثلاثة التالية تعتبر إشارات قوية على أن تركيا تسعى لتغير دورها الإقليمي والدولي، وتحولها من دولة وظيفية تخدم أجندة الدول الكبرى سواء في فترة الحرب الباردة أو بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إلى دولة فاعلة ومؤثرة بالقضايا الإقليمية والعالمية، تسعى لحفظ مصالحها الخاصة وخدمة أجندتها الوطنية.
الحدث الأول: مفاوضات التركية – الأوروبية حول ملف اللاجئين 2016، والذي تعاملت فيه تركيا مع دول الاتحاد الأوروبي الند بالند، وعلى أساس المصلحة المشتركة المنتزعة لا المنون بها على تركيا، الاتفاقية الأوروبية – التركية لاستعادة اللاجئين الموقعة في 20 مارس/آذار 2016 حول تبادل اللاجئين، تلزم تركيا باستعادة كافة اللاجئين الذين وصلوا من أراضيها بطريقة غير شرعية إلى الجزر اليونانية، ومقابل كل لاجئ تستعيده تركيا، يلتزم الاتحاد الأوروبي باستقبال لاجئ واحد من اللاجئين السوريين الموجودين فيها.
بهذا الاتفاق الموقّع بين تركيا والاتحاد الأوروبي حول اللاجئين، فرضت تركيا نفسها على النخبة السياسية الألمانية المعارضة لدخول تركيا للاتحاد الأوروبي وغيرهم من المعارضين الأوروبيين، وأكدت أنها لها دور جيواستراتيجي مهم، ستسهم به في حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي.
وأكدت هذه الندية بتصريح الرئيس التركي أردوغان لوسائل الإعلام التركية منتقداً الاتحاد الأوروبي بقوله: (تركيا تستضيف ثلاثة ملايين لاجئ، على أولئك الذين لا يستطيعون توفير مكان لعدد قليل من اللاجئين، والذين يتركون هؤلاء الأبرياء وسط أوروبا في أوضاع مخزية، النظر إلى أنفسهم أولاً، قبل أن ينتقدوا تركيا وسياستها).
بعدها أصبحت أنقرة تلوح بورقة اللاجئين أمام الدول الأوروبية التي اعتبرته سلوكَ ابتزاز، فيما يراه الأتراك أمراً مشروعاً في ظل تلكؤ الاتحاد الأوروبي في تطبيق بنود هذه الاتفاقية، مما دفع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لزيارة أنقرة ثلاث مرات في شهر واحد عقب تهديد الأخيرة بإلغاء الاتفاقية، وفتح حدودها لخروج من يرغب من اللاجئين في ذلك.
ثانياً: نجاح الرئيس التركي وحكومته وشعبه في إحباط المحاولة الانقلابية الخامسة، التي أظهر فيها الشعب التركي تمسكه بالشرعية والديمقراطية، ورفضه لحكم العسكر والرجوع لحالة الفوضى واللاستقرار التي تنتج عن الانقلابات العسكرية، والتفافه حول القيادة السياسة الشرعية التي لم يرَ منها إلا الإنجازات الكبرى والمشاريع العظمى، وسنوات من الازدهار والتقدم والحرية والديمقراطية.
حيت استفادت الحكومة التركية والرئيس التركي الطيب أردوغان من اللُّحمة الوطنية والوئام بين جميع فئات الشعب التركي، والتقارب بين الحزب الحاكم وأكبر أحزاب المعارضة، وموجة التعاطف الشعبي بجميع أنحاء العالم مع الحكومة والشعب التركي، في إبراز أن تركيا الجديدة "Yeni Türkiye" مستهدفة من قوى إرهابية داخلية وخارجية مدعومة دولياً، وأن البلد يحتاج لنظام سياسي قوي، يسهل اتخاذ القرارات المصيرية في الوقت المناسب، كما يحمي الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهذا الأمر أصبح النظام البرلماني لا يوفره، وأن تركيا الجديدة أصبحت أكبر من هذا النظام المقيد لحركة النهضة التركية.
هذا ما شجع الرئيس التركي وحكومته وقادة العدالة والتنمية على التعجيل بتقديم التعديلات الدستورية، بعد التوافق مع حزب الحركة القومية الذي استمر في دعم الحكومة الشرعية وترك المعارضة من أجل المعارضة، والميل لخيار دعم الديمقراطية والشرعية من أجل حماية البلاد من حلقة النار المحيطة بها، ومن مخططات وأجندة الدولة المنزعجة من تركيا والمنظمات الإرهابية الخادمة لها.
ثالثاً: فوز حملة "نعم" بالاستفتاء الشعبي حول التعديلات الدستورية 2017، التي تتضمن التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، بعد معارضة القوى المؤثرة في الاتحاد الأوروبي وتشكيك من القوى الكبرى وحلفائها بالعالم العربي.
وقوف أوروبا وخصوصاً ألمانيا ضد حملة "نعم"، وتشجيع حملة "لا" ودعم وتسهيل عملها وأنشطتها، دفع كثيراً من الأتراك للتساؤل عن الغاية من الاصطفاف الأوروبي – الغربي حول حملة "لا" ووقوفها ضد حملة "نعم"، مما دفعهم إلى التعامل مع الموقف الأوروبي المنحاز بنفس قومي، يعتبر كل يصدر من الغرب تجاه قضايا الوطنية التركية مرفوضاً، وينحاز لنصرة ما يقابله وإن كان لا يوافق عليه أو يختلف مع بعض تفاصيله.
بهذه العوامل وغيرها وتحت شعار (من أجل تركيا القوية) استطاع حزب العدالة والتنمية وقادته رفع نسبة قبول النظام الرئاسي من 30% قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة إلى 51.41% بعدها، فنجاح الرئيس التركي الطيب أردوغان في معركته مع المعارضة الكمالية والاتحاد الأوروبي وباقي القوى المناوئة لتركيا الجديدة، وإقناعه الشعب التركي بأهمية النظام الرئاسي وباقي التعديلات الدستورية، انتصار اعتبره الرئيس التركي خطوة مهمة على طريق تحقيق تركيا الجديدة رؤيتها الاستراتيجية بداية من رؤية عام 2023 مروراً برؤية عام2053 وانتهاء برؤية عام 2071.
قال رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان: (هناك الكثير من الأعمال التي ينبغي علينا القيام بها معاً، لتعلموا جيداً أن هذه ليست لحظة انطلاقنا وإنما نحن بالفعل على الطريق والآن سنواصل المضي قدماً لتحقيق أهدافنا بشكل سريع، حاولوا إعاقتنا وإزاحتنا عن الطريق في كل وقت، لكن بعون الله تعالى لن تكون هناك أي إعاقات وموانع أمام تركيا من الآن فصاعداً، تركيا سترتقي فوق مستوى الحضارات المعاصرة من خلال اتخاذ خطوات هامة في كافة المجالات.. لا داعي للقلق على الإطلاق).
مباشرة بعد استفتاء 16 أبريل/نيسان، ظهرت معالم التحول الواضح في السياسة الخارجية التركية، بداية بتهديد المنظمات الإرهابية سواء بالداخل التركي وخارجه، ومحاولة التضييق عليها واستهدافها، وقيام الرئيس التركي في مايو/أيار الجاري زيارة كل من الهند وروسيا والكويت والتهيئة لزيارة الصين والولايات المتحدة الأميركية وبلجيكا، وإجراء مباحثات رسمية مع زعماء هذه البلدان، وعقد صفقات تجارية وشركات اقتصادية مهمة، والسعي لتفاهمات حول المشاكل الإقليمية، وخصوصاً الملف السوري، وقضية دعم المنظمات الكردية التي تقاتل في سوريا، وغيرها من الملفات التي تريد تركيا فتحها مع عدة قوى من أجل إيجاد حل مناسب يخدم المصالح والأمن القومي التركي.
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: "إن كل تطور في سوريا والعراق مسألة تتعلق بالأمن القومي لبلادنا بشكل مباشر.. نريد أن نصدّق بأن حلفاءنا سيختارون الوقوف إلى جانبنا بدلاً من الوقوف إلى جانب التنظيمات الإرهابية، وسأقول ذلك بالتفصيل للرئيس دونالد ترامب خلال لقائنا في 16 مايو/أيار الجاري".
كما جدد الرئيس التركي انتقاده للكيان الصهيوني المحتل وانتهاكاته المتتالية في حق القدس والأقصى وعزمه منع الأذان بالمساجد المقدسية عبر مشروع يعرض على برلمان الكيان الصهيوني، وقال رجب طيب أردوغان في كلمته خلال مشاركته في الملتقى الدولي لأوقاف القدس: "ما الفرق بين الممارسات الإسرائيلية والسياسة العنصرية والتمييزية التي كانت مطبقة تجاه السود في أميركا وفي جنوب إفريقيا؟.. لن نسمح لإسرائيل إطلاقاً بمنع رفع الأذان في القدس، وإنه في حال تمرير هذا القانون سيكون نقطة سوداء في تاريخ العالم أجمع".
وبحث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، العلاقات الثنائية بين البلدين والقضايا الإقليمية خلال الاتصال الهاتفي بينهما، وتبادلا الآراء حول القضايا الإقليمية – سوريا وقبرص والاتحاد الأوروبي – وشدد الطرفان على تطوير العلاقات بشكل أكبر نحو الأمام.
الحركية التي تعرفها الدبلوماسية التركية منذ نجاح حملة "نعم" وموافقة الشعب التركي على التعديلات الدستورية، دليل على أن تركيا ماضية في طريق فرض نفسها كقوة إقليمية فاعلة مؤثرة في القضايا التي تخدم مصالحها، وما التهدئة التي سار عليها الاتحاد الأوروبي والناتو والكيان الصهيوني مع تركيا، والاستقبال المتميز الذي حظي به الطيب أردوغان في الهند والكويت، والتجاء دول إفريقية (صومال وسيراليون) إلى الخبرة والمساعدة التركية، إلا دليل على أن تركيا أصبحت تفرض نفسها إقليمياً ودولياً.
فهل سترضى القوى الإقليمية المتنافسة مع تركيا، والقوى الدولية التي اعتادت على أن تركيا دولتهم الوظيفية، بالدور والموقع الجديد لتركيا الجديدة؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.