دُعي أبو محمد لحضور مباراة الكرة بين فريقَين إسبانيَّين بعد صلاة العشاء مباشرةً، لم يكن من عادات أبو محمد أن يرفض طلباً لأحد مهما كان غالياً؛ فأبو محمد إمام المسجد القديم بمدينة اللد، يحبه أبناء مدينته ويثقون به؛ لصدقه وطيبة قلبه.
كان أبو محمد يودُّ لو رفض الدعوة لحضور هذه المباراة، فبمثل هذا الشهر هُجِّر أهل فلسطين وأهل اللد، وكانت نكبة ما زال جرحها نازفاً. بكل الأحوال كانت المباراة صاخبة، فهي تجمع بين غريمين لدودين؛ صوت الجماهير علا بكل أرجاء البلدة القديمة في اللد وحتى الأحياء الجديدة والمجاورة.
كان صوت الرصاص أقوى وأحدَّ من صوت الجماهير الإسبانية؛ فصوت الجماهير بالمدرجات يمكن أن يتحكم فيه مكبر الصوت لهذا التلفاز، أما صوت الرصاص وأزيزه فلم يكن إلا عملية قتل أخرى تضاف إلى سجل القتلة والجناة في هذه البلاد المنكوبة.
خرج أبو محمد مهرولاً، لربما سيتدارك الأمر ما استطاع إليه سبيلاً.
"ما باليد حيلة"، تلك العبارة التي قالها الطبيب المعالج لأبو محمد؛ فقد توفي الشاب.
انطلق أبو محمد في عملية صلح وتهدئة أخرى، لم تكن تلك المرة الأولى أو العاشرة… كان دائم التكرار مُمنِّياً نفسه وقلبه "كم أنا متلهفاً إلى يوم لا تُعقد به المصالحات بعد أن يغادرنا العنف دون رجعة!".
قُتل العشرات؛ بل المئات في مدينة اللد، والرملة، ويافا وأرجاء فلسطين التاريخية كافة، ولم يحاسب القاتل بانتظار من يقتص منه، وشُيع المقتول لتدفن معه أحلام غضة وابتسامات لن تعود أبداً، كم هي أليمة كلماتك يا لوبا السمري! وهي الناطقة باسم شرطة إسرائيل، فقد امتهنت التصريحات الصحفية الكيدية، فهي ها تعلن: "شاب أصيب بعيارات نارية وعلى الفور تم إسعافه، إلا أن محاولات الإسعاف باءت بالفشل وتوفي فلان"، "الشرطة تحقق"، "الشرطة تبحث عن الجاني"، وأخيراً الشرطة لم تستطع كشف خيوط الجريمة..
إنها أسطوانة مسجلة منذ عقود؛ بل أصبحت ماركة مسجلة حصرياً لصالح الشرطة الإسرائيلية. أكاد أجزم بأن لوبا السمري تبتسم؛ بل تطير فرحاً عند سماعها عن جريمة قتل في البلدات العربية.
يقول ضابط التحقيق من الشرطة الإسرائيلية، إن التحقيق في جرائم القتل بالبلدات العربية يصطدم بعدم التعاون الكافي من قِبل المواطنين، وينفي التكاسل أو التخاذل. لعل إصابة سائق تاكسي يهودي تل أبيب، كان بالقرب من الحادث بشكل عرضي، كافية لإلقاء القبض على الجناة في غضون ساعات قليلة، عن أي نوع من التعاون يبحث هذا الضابط؟!
لقد سُلمت البلدات العربية لشبّيحة وعصابات إجرام لا تتورع عن إطلاق النار وقتل كل من يقف أمامها دون حسيب أو رقيب، بشرط ألا تتعرض هذه العصابات إلا للعرب وداخل بلداتهم.
لم يتبقَّ أمام أبو محمد الكثير من الإمكانات؛ فها هو يجتهد في إيقاف مسلسل العنف هذا، وكيف له أن ينجح والجناة طلقاء في تحدٍّ صارخ لمشاعر الألم لذوي الفقيد؟! وكيف لذوي الفقيد السكوت والسكون والجناة يسرحون ويمرحون؟! نعم، لقد تم إطلاق سراح الجناة بانتظار عمليات الانتقام؛ فالشرطة تعرف جيداً أن إطلاق سراحهم سيجدد دورة العنف ويزيدها اشتعالاً… الموت للعرب… لا حاجة للتعب والاجتهاد، هذا حال شرطتهم وهذا حال العرب وبلداتنا المنكوبة!
إنها النكبة المتكررة كل يوم، إنها الألم المتجدد والذي تجذر ليرافق أناساً لا حول ولا قوة لهم، فلا أمن ولا أمان، ولا يوجد وجهة أو باب لتطرقه؛ وهل تُشتكى الذئاب للضباع؟!
كان أبو محمد يواجه نجاحه وفشله بالإصلاح، بابتسامة عريضة لا تفارق محياه؛ فمنذ الذكرى الستين للنكبة وحتى الذكرى السابعة والستين للنكبة، عمل جاداً لعقد المصالحات في أكثر من 20 قضية قتل وجرائم أخرى.
لم يُعثر على الجناة قط؛ فشرطة إسرائيل تدعي أن الجناة أشباح لا يمكن أن تتعرف عليهم لتقدمهم للمحاكمة، باستثناء عملية قتل واحدة، قالت الشرطة الإسرائيلية إن الحل لوقف هذا النزيف يكمن في ترحيل أفراد هذه العائلة كافة إلى مكان آخر. كان وزير الشرطة يفضل غزة مكاناً يُرحّل إليه أفراد هذه العائلة، إلا أنه لم يجد لذلك سبيلاً فكانت الضفة الغربية هي المستقر لهذه العائلة المنكوبة أصلاً.
أما أبو محمد فقد غادر مجلسه الذي دُعي إليه دون أن يكمل مشاهدته مباراة الكرة وانطلق لعمله وجهوده المباركة.
بكل الأحوال، انتهت المباراة بفوز أحد الفريقين.. اندلع شجار بسبب النتيجة التي لم ترُق لأحد مشجعي الفريقين، فكانت الإصابات طفيفة، وحضرت الشرطة وأعلنت أنها تعمل على مكافحة العنف ولن تتهاون في هذه القضية. وفعلاً تم القبض على مجموعة شبان، وقدمت لوائح اتهام بانتظار النطق بالحكم، لم يكن حضور الشرطة الإسرائيلية إلا بهدف الإيقاع بين الأصدقاء والدفع نحو مزيد من التعقيد. وطبعاً لم تضيع الشرطة وقتها الثمين للبحث عن قتلة عربي هنا أو هناك، فقد حررت مخالفات كثيرة وبمبالغ كبيرة للسائقين والمارة بحجة تجاوز قوانين السير؛ لأنها تقوم بعملها! يا لبؤسنا وبؤس بلداننا! يا لحظنا المتعثر! فقد فتحت ثغرة لدوامة جديدة من العنف، جوهرها الجهل، وموجِّهها شرطة ماكرة امتهنت حيك المكائد.
العنف حلقة مفرغة لا يجد العرب طريقاً للخروج منها؛ ففي الذكرى السابعة والستين لنكبة فلسطين وقعت لوبا السمري على خبر مقتل أبي محمد في أثناء خروجه من مسجده، لقد هز هذا الخبر مشاعر الفلسطينيين كافة، ووُجدت وصيَّته بالجيب الأيمن من سرواله والتي يقول فيها: "لا تثأروا لقتلي وسامحوا الجاني كان من كان؛ كي لا يتسنى لأبناء الحرام الإيقاع بكم مرة أخرى وإدخالكم بدورة عنف جديدة لا مخرج منها".
هذا حال من يعيشون النكبة كل عام وكل يوم، هذا حال من رفضوا الرحيل في بكورة وأول فصول نكبة فلسطين، فباتوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.