الإسلاميون السودانيون في التِّيه “1”

بعد عقدين ونصف من الزمان، جاء الشيخ الترابي في تلك الليلة ليقدم إدانة للانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم الرئيس محمد مرسي في مصر (يوليو/تموز 2013) لكن الترابي سرعان ما حاصرته تساؤلات الصحفيين الذين استدعوا تجربة الحركة الإسلامية في تقويض الديمقراطية الناشئة في السودان.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/16 الساعة 01:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/16 الساعة 01:07 بتوقيت غرينتش

التمسك بشرعية الانقلاب العسكري

أقبلت الحركة الإسلامية السودانية على انقلابها العسكري (30 يونيو/حزيران 1989) وقد تكاملت لديها رؤية تقوم على: أن "العالم القوي المستكبر" مهما كانت لديه الديمقراطية قيمة عالية، فإنه يضع حضارته قيمة أعلى، فإذا أنتجت الديمقراطية إسلاماً فإنها ستُوأد فوراً بما تحمل من تهديدات للحضارة الغربية، ذات التبريرات، أو قريباً منها، تكررت في المؤتمر الصحفي للأمين العام للمؤتمر الشعبي، بعد عقدين ونصف من الزمان، جاء الشيخ الترابي في تلك الليلة ليقدم إدانة للانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم الرئيس محمد مرسي في مصر (يوليو/تموز 2013) لكن الترابي سرعان ما حاصرته تساؤلات الصحفيين الذين استدعوا تجربة الحركة الإسلامية في تقويض الديمقراطية الناشئة في السودان.

إذاً فقد أفرغ الشيخ الترابي -ليلتئذٍ- جهداً كبيراً في اجترار ذات المسوغات التي قام عليها انقلاب الإنقاذ لتفسير التناقضات التي أشار إليها الصحفيون: "إن الغرب رغم أنه يؤمن بالديمقراطية فإن لديه مصلحة أعلى منها، وهي أن الديمقراطية إذا كانت ستلد إرادة ضد المصالح الغربية، فإنه سيقضي عليها فوراً، لا سيما إذا كانت تلك الإرادة إسلامية التوجه؛ إذ إنّ لديهم مع الإسلام تاريخاً من الحروب الصليبية والاستعمارية، وقد فعلوها في الجزائر في الانتخابات الأولى والانتخابات الثانية، وفعلوها في تركيا وفعلوها في فلسطين.."، وذهب الشيخ الترابي في تعليقه على الانقلاب العسكري ضد حكم الرئيس المصري محمد مرسي إلى أن الغربيين رغم عدم رغبتهم في عالم تسوده الديكتاتورية فإنهم يحسبون أن المسلمين أحط من أن يرقوا إلى هذه القيمة الديمقراطية.

جسدت تلك اللحظة مأزق المؤتمر الشعبي، الذي اختار أن يحمل أوزاره كاملة ومن أوزار الإنقاذ، ليس فقط بتقديم ذات القيادات التي حملت الجيش إلى السلطة، إنما من خلال تبنّي أصول الخطاب الذي يتمسك بشرعية الانقلاب العسكري وصواب القرار الذي أطلق تدابيره، لكن مهما أقرت القيادة بخطل اجتهادها في الاستعانة بالعسكر، واعترافها في المنابر المفتوحة أنه خطيئة كبيرة تستوجب الاستغفار، فإنها ظلت تجانب الاعتذار واعتزال القيادة لأجيال جديدة لا يصمها الخصوم بجريرة الانقلاب.

جانب آخر شاب جملة كسب المؤتمر الشعبي الذي أقدم على ساحة المعارضة السياسية التي تسيطر عليها أحزاب اليسار، التي مهما بدا عسيراً على بعضها تقبل المؤتمر الشعبي بين صفوفها، فإن وجوهاً من قيادات التنظيم الإسلامي بدت كذلك زاهدة في أيما اتصال بمكونات "قوى التحالف الوطني"، والخروج عن نقائهم الإسلامي إلى ساحة قوى لا تجد إلا أنها علمانية يسارية، تحاول فرض دستور علماني أو نموذج دولة مدنية، لقد صوّر ذلك الموقف المؤتمر الشعبي في قلب معسكر الجماعات الإسلامية الجامدة ذات القوالب التي تصنف العالم إلى محورين وعالمين؛ عالم ديني وعالم علماني،

وهي ذات القضية التي أوضحت من بعد تفوق حركة النهضة التونسية واتساع أفقها وقابليتها الفذة للتطور عندما أعلن الشيخ راشد الغنوشي، في مؤتمر النهضة العاشر، الفصل الكامل بين الدعوي والسياسي في عمل الحركة، وأن مرجعية حزب النهضة هي الديمقراطية، باعتبارها مكتسباً إنسانياً انتهت إليه التجربة البشرية في اقترابها بفطرتها من قضايا الشريعة الحقة، في الإنسان الحر المكرم ذي الحصانة والحقوق، وفي مجتمع العدل والكفاية.

والحق أن الشيخ راشد الغنوشي، على النقيض من الحركة الإسلامية السودانية، ظل على موقف واحد من الديمقراطية يلتزم موقفاً مبدئياً مؤيداً لها مهما مضت إلى إنتاج تجارب تضاد أصول أفكاره ورؤاه الإسلامية وتناقضها؛ إذ مضى يعلن مراراً رفضه لأن يفرض رؤاه السياسية بأدوات الضبط والقوة يجد "أن أفضل آليّة توصّلت إليها البشرية هي الآلية الديمقراطية والآليّة الانتخابيّة التي تُفرز مُمثِّلين للأمّة بما يجعل الاجتهاد اليوم ليس اجتهاداً فردياً وإنّما جماعياً يقوم به ممثلو الأمّة المنتخبون..".

لم يكن غريباً أن يتعرض الغنوشي لصدمة هائلة وهو يرى المشروع الإسلامي في السودان، الذي كان قريباً منه ذات يوم، يمضي على طريق الشمولية! وينظر الغنوشي إلى رفاقه السودانيين من طليعة الحداثيين الذين تعلموا في أرقى الجامعات الغربية ينزعون لأن يكونوا طبقة حاكمة منفردة لا تشارك الآخر ولا تتيح له حيز العمل السياسي العام، فقد وجد الغنوشي وفق تعبيره: "أنه من الصعب أن يلتمس لهذا الفريق الحاكم في السودان من الأعذار ما يلتمس لحركة طالبان.."، فيمضي متسائلاً وهو يتأمل ما انتهت إليه تجربة الإسلاميين السودانيين في الحكم:

"كيف سولت لهم أنفسهم بعد أن نجحوا في الانقلاب على الآخرين أن ينفردوا بحكم السودان وإلى الأبد؟! مراهنين كأي جماعة من جماعات الحداثة العلمانية (وهم الإسلاميون) على الاستيلاء على الدولة والانفراد بها واستخدام مؤسساتها الحديثة في تفكيك بنية المجتمع بحسبانها متخلفة طائفية أنتجت كيانات سياسية طائفية تقليدية، فلتحل، وليخضع الشعب لمبضع الجراح الحداثي الإسلامي يفككه؛ سبيلاً لإعادة تركيب هويته بحسب الأنموذج الذي نريد، وذلك عبر بسط التعليم على أوسع نطاق، لا بتقدير العلم قيمةً في ذاته أو سبيلاً للنمو وإنما كأداة سياسية لتقويض بنية الكيانات التقليدية المنافسة رهاناً على صنع هوية جديدة للشعب..".

مهما يكن من قول فقد أعلن الشيخ الترابي مطلع عام 1996 العزم على المضي بخطة الحركة الإسلامية وتصوراتها في الحكم نحو تمام الكمال عبر الانتقال إلى نظام تعددي حر تنبسط فيه الحريات في العمل السياسي والتنظيم والصحافة والإعلام وفق دستور يقر ويضمن جميع ذلك، وإذ ظلت تلك الخطوات متعثرة بطيئة فقد أُنجز الدستور على نحو ما أراد الترابي نحو عام 1998، كانت تلك هي عين اللحظة التي رأى فيها الغنوشي، الترابي وقد عزم على العودة بمشروعه التجديدي إلى أصوله وغلق القوسين اللذين فتحهما الانقلاب وقد كانت تلك ذاتها هي اللحظة التي وجد فيها الترابي "أبواب البرلمان موصدة وأبواب السجن مفتّحة تحتضنه..".

سوى أن المفارقة الطريفة في الخلاصات التي توصلت إليها الحركة الإسلامية في السودان وتونس، فعلى حين بدأت حركة النهضة، لأول مرة، مستهدية بالحركة الإسلامية السودانية عالةً عليها في الفكر والتنظيم فهي تنتهي اليوم حركة ناضجة تجني ثمار غرسها الطيب صبراً على أدوات التغيير السلمي وقد أعقبتها ثورة الربيع التونسي لتمُن على الذين استضعفوا فتجعلهم أئمةً وتجعلهم الوارثين.

على حين تقف الحركة الإسلامية السودانية في الجانب الخاطئ من التاريخ بما قارفت من انقلاب عسكري كانت هي أولى ضحاياه، لا تأمن سلطة الإنقاذ الحاكمة اليوم باسم الإسلام أن تغشاها هبة الشعب ثائرة عاتية فتعصف بها، فيما اتخذ صنوها وتوأمها السيامي بعد ما يقارب عقدين من الفصال قرار الالتحاق بسلطتها وهو موقف يؤكد أن أكثر الإسلاميين لم يستوعب درس المفاصلة، كما يؤكد أن بعض القلة الذين انعطفوا إلى الشيخ ساروا في ركابه، لا إيماناً وقر في صدورهم بالحرية المطلقة التي عبر عنها الشيخ الترابي منذ عام 1996 وإنما تسوقهم عاطفة متمكنة وعصبية إلى القيادة التاريخية للحركة.

وكما ظلت سلطة الإنقاذ تبدد فرص الحل السياسي لأزمة السودان التي تفاقمت تهدد كيان الوطن من بعد انشطاره على أيديهم إلى قطرين، ظل المؤتمر الشعبي رهيناً للتصورات التي لم تتبدل منذ أول يوم تأسيسه فقد انجلت وقائع مؤتمره العام الذي كان موضوعه الأشهر الصراع على القيادة بين اثنين، لكنهما من السبع قيادات الذين تولوا التدبير والتخطيط نحو تمام إنفاذ انقلاب الإنقاذ العسكري، في خضم ذلك الصراع الذي حبس تفاعل المؤتمِرين كله في دائرة الأشخاص دون أن يترقّى إلى طرح أفكار ورؤى يستمدها من تراث زعيمه المفكر الراحل الذي ترك بين أيديهم أطروحات سياسية على نحو تصوره للنظام الخالف لكنهم عجزوا عن تقديم أي أفكار أو قراءات لها ولو شروحات مختصرة لأعضاء تنظيمهم ولعامة الناس.

ثم متى يذهب هؤلاء الناس ويفسحون الطريق لأجيال جديدة تقود هذه الحركة وتضع عنها إصرها والأغلال التي كانت عليها فقد تبدل الزمان ووهنت القوى والمواهب؟!

وإنما يبلغ الإنسان طاقته ** ما كل ماشية بالرحل شملال

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد