هنيئاً لكم تحرير فلسطين والعراق وسوريا ونهاية مجاعات إفريقيا وحلول السلام على العالم كنزول ثلج ديسمبر/كانون الأول الذي يغطي كل شيء ويُلبس الأرض بياضاً ناصعاً بعدما ارتدت السواد قروناً.
هذه بشرى جميلة، لكن يؤسفني أن أخبرك بأني كاذبة وأننا في البئر العميقة نفسها، نأمل الخلاص بينما نحفر أكثر فنغوص أكثر! ويؤسفني أيضاً أن أخبرك بأنه في الوقت الذي نشرب فيه الماء والذل الممزوج بالمهانة كل يوم، راح البعض منا مطلِقاً حملة تضامن بالماء والملح، وكم وددت لو شربوا السم قبل أن يستهينوا بمعاناة غيرهم.
ظننتهم في الأول أضربوا عن الطعام تضامناً، فقلت بيني وبين نفسي: وماذا بعد الامتناع عن الطعام والشراب، فالعين بصيرة واليد قصيرة وهذا عصر "خذ وأعطني" والمصلحة فوق كل شيء! كان أهون لو أنهم طأطأوا رؤوسهم كما فعلوا دائماً على أن يقترفوا هذا الجرم في حق معاناة الآخرين.
أتظن فعلاً أنك إن شربت الماء بالملح وأظهرت تأثُّرك بذلك الطعم قد يتغير أي شيء. آه، لقد غيرت شيئاً في! جعلتني أفقد الأمل فينا وأعي جيداً ضآلة الإنسان أمام معاناة أخيه الإنسان. ولو شرب من ماء البحر ما شفعت لك هاته التفاهة.. أيؤنّبك ضميرك لهاته الدرجة فقررت أن توهمه بأنك إنسان أفضل؟! آسفة، لكنك أسوأ مما تظن نفسك بكثير.
هكذا -نحن العربَ- نعوض تلك النغزة الصغيرة من ضمير يتآكل ويتضاءل شيئاً فشيئاً بهاته الترهات.. كطفل قتلنا أسرته بأكملها وهجرناه فصار يتيم الوطن والأهل ومنحناه حلوى لينسى.. فماذا ينسى؟! وهل يجدي النسيان أمام جراح حفرت في الذاكرة والروح قبل أن تغدو رصاصاً في الجسد؟!
تذكرت كيف أن البرامج الغنائية تتجه لتتويج حاملي الجنسية الفلسطينية، فليس كل من يولد عليها فلسطينياً، فأن تكون فلسطينياً هو أن تولد بطلاً لا يهاب الموت ولا سطوة المال، لا يؤمن بغير: عش حراً أو مت وأنت تحاول أن تكون حراً، وليس متبنّي القضايا الشخصية قبل الوطنية.. دائماً نمنحهم اللقب كأننا نعوض عن شيء نعلم أننا نقصر فيه!
لكن، متى كانت أغنية وفيديو كليب تغني عن الوطن؟! متى بعنا كرامتنا مقابل رغيف معجون بالمهانة ودموع غرباء الحياة؟! هل يظنون فعلاً أن كأس ماء بالملح تعادل عُمراً من العذاب لرجال جاوروا الموت وحفظوا تراسيم وجهه.. لم يعودوا يهابونه؛ فهو في ظلمة الليل وصقيع حيطان الزنزانة تمنّوه حلماً يزورهم لأجل الخلاص.. الخلاص من حياة قَتلتْهم في اليوم ألفاً وأبقت على أجسادهم نابضة بالنضال.
آسفة، لكنّ تحديكم جعلكم أصغر مما ظننتكم بكثير، ماذا لو نمتم واستيقظتم ونسيتم كما تفعلون دائماً؟ ماذا لو رحمتموني من جهلكم واستهزائكم بمعاناة الغير؟ ماذا شربتم؛ الحنظل وجافيل لعله ينظف دواخلكم؟! ماذا لو أني أنام وأستيقظ فأنسى أيضاً ما فعلتم وما أنتم فاعلون؟
تكمن معضلتنا بالعصر الحالي في أننا نعيش أزمة قادة وملهمين، فنحن جعلنا من لا يستوعب عقله غرام معرفة وإيمان وإنسانية أن يكون القدوة، خلقنا للصغار أبطالاً من قمامة، وروجنا لهم قيماً بالية لا تصلح حتى لإعادة التدوير، ربيناهم على مبادئ مغلوطة تضعهم في صراع مع أنفسهم، مبادئ النزاهة وضرورة الرشوة للتحصُّل على حق، مبادئ المحبة مع الجار وسب أجداد أجداده في أول مشكل صغير.
علمناهم إن هو غني له سيارة رائعة إذاً فهو يستحق الاحترام، إن هو ذو منصب سامٍ فهو الاحترام نفسه! أما إن كان 'ابن الأصل والأصول"، فهو ليس فقط الاحترام فهو القانون والمشرّع وهو الشارع والوطن.. علمناهم أن الصمت والجهل نعمة وأن الجدران لها آذان.
بل وحتى وأنا أخط هذه الأحرف أنتقي الكلمات، فلم أتجرد بعد من كل تلك التراكمات الأسمنتية بداخلي، ما زلت أظن أن أحدهم قد يخرج من الجدار فيأخذني بعيداً، إلى أرض تزمامارت الملعونة التي ابتلعت الأرواح والأجساد، لقطعة أرض رسخت الذعر لكل من سمع أنين الناجين منها. لطالما سمعت القصة وخفت أن أحمل الكتاب لأقرأه لعل الموت يتلصص لقرائه بين الأوراق فيخطف قطعة من روحهم ويأخذها بعيداً إلى هناك حيث الغربان تقيم وليمة على شرف الثعالب وأمانة الذئاب.
أريد فقط أن أذكركم بأن فيسبوك ليس ساحة نضال، وأن شربة الماء ليست نضالاً، وأن أغنية الحلم ليست نضالاً، وأن قمة العالم العربي ليست نضالاً، وأن شارة النصر أو الأربعة ليست نضالاً، وأن تغيير صورتك في مواقع التواصل الوهمية ليست نضالاً.
آه، نسيت وحتى إعلانك للتضامن ليس نضالاً! إن لم تكن في الساحة تتلظى بنيران الوطن العدو وتسير في طريق المعرفة والإيمان؛ كي تعرف الخلاص من قيود النضال التي أسكتوا بها ضمائرهم المحتضرة؛ كي تموت في صمت فأنت لست مناضلاً.. يؤسفني مجدداً أن أخبرك بأنك فقط زنديق!
علِّموا أبناءكم حب الكرامة والعيش الحر قبل أن تعلموهم المشي على جوانب الجدران مطأطئي الرأس، وعلموهم الأخلاق قبل انتقاء الأطباق؛ فالأمم أخلاق فإن هي ذهبت ذهبوا.. ونحن في طريق الهاوية ماضون لا محالة ما دام أبطالنا من ورق وما دام النضال من ماء يتلاشى أمامه الورق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.