منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا كلما مررنا بأزمة سياسية أو اجتماعية نعود إلى موضوع اجتثاث البعث؛ حيث إن هذا الموضوع قد أثار تساؤلات كثيرة عما إذا كان هو السبب في كثير من الأزمات السياسية، أو المشاكل الاجتماعية التي يمر بها العراق.. ونحاول هنا تسليط الضوء على بعض الإشكاليات التي سببها قرار اجتثاث البعث الذي تحول فيما بعد إلى قانون المساءلة والعدالة.
منذ بدء الاحتلال الأميركي للعراق طرح موضوع اجتثاث حزب البعث، لمنع الحزبيّين والمسؤولين في النظام السابق من تبوؤ أي مناصب في العملية السياسية بعد الاحتلال.
وقد أنشئت لهذا الغرض هيئة سُميت بالهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث، بموجب القرار الصادر عن سلطة الائتلاف التي رأسها الحاكم المدني بريمر بتاريخ 16 أبريل/نيسان 2003، كما تم وفق هذا القرار حل الجيش العراقي أيضاً.
لقد اختلف مفهوم اجتثاث البعث عند الأميركان عن مفهومه لدى الأحزاب والشخصيات الحاكمة في العراق، وبقي هذا الموضوع يكتنفه الكثير من الغموض.
في البداية أراد الأميركان إصدار قرار بحل حزب البعث، أو حظر نشاطه، إلا أنه تطور إلى مفهوم أكثر شمولية وعمقاً، وهو اجتثاث حزب البعث الصدامي.
وقد حدد نطاق سريان الاجتثاث هذا على أعضاء قيادات الشعب فما فوق، بادئ الأمر، إلا أنه تحوَّل فيما بعد إلى شمول أعضاء قيادات الفرق (الأدنى مرتبة) فما فوق.
وقد نصَّ قرار تشكيل هيئة اجتثاث البعث وما بعده من القوانين ذات العلاقة على بعض الاستثناءات من تطبيق نصوصه، ولم يكن معروفاً بصورة جلية الأساس الذي يتم بموجبه استثناء بعض الشخصيات في النظام السابق من هذا القرار أو القانون فيما بعد.
لقد استفاد من هذه الاستثناءات ابتداء الحاكم المدني الأميركي، ثم رؤساء الوزارات المتعاقبة بعد ذلك؛ حيث إن الأميركان حاولوا الاستفادة من خبرات بعض ضباط الجيش السابق عند إعادة تشكيل وحدات الجيش والشرطة.
وقد شملت هذه الاستثناءات عدداً من القيادات العسكرية ذات الخبرة والكفاءة، وفي وقت لاحق وبعد تشكيل الحكومات المتعاقبة دخل في هذا الاستثناء كثير من العناصر الانتهازية والوصولية للتبرؤ من النظام السابق، وللاستفادة من عطايا ومنح النظام الجديد، ولذلك فإن العناصر التي تم استثناؤها سواء العسكرية أو قوى الأمن أو الإعلاميون، أو موظفو الدولة الآخرون، كانت عناصر هزيلة غير كفوءة، ولم تستفِد منها الدولة، بل أصبحت وبالاً عليها.
أما الأشخاص الذين لم يجرِ استثناؤهم، فقد تفرقوا بين معاد للأميركان، والنظام الجديد، وحمل السلاح، أو من هرب إلى خارج العراق، والذين بقوا في ديارهم تمت تصفية أغلبهم، أو اعتقالهم، ابتداء من ضباط الجيش السابق ثم السياسيين وموظفي الدولة الآخرين.
إن موضوع الاجتثاث لم يتم الاتفاق عليه بين الرغبة في الإبعاد عن العمل السياسي، أو الثأر والانتقام، كما جرى على نطاق واسع التثقيف باجتثاث فكر الحزب، ولم يجرِ التفريق بين فكر البعث كمفهوم قومي عربي، والمفهوم التسلطي لبعض عناصر النظام السابق الذين ارتكبوا جرائم بحق الإنسانية، أو جرائم الفساد الإداري والسياسي.. وقد حاولت الأحزاب الدينية الحاكمة إحلال المفاهيم الدينية والمذهبية الضيقة محل المفهوم القومي أو الوطني، الذي كان سائداً طوال عقود طويلة، واتسعت الأفكار الشعبوية المناهضة لكل ما هو عربي، تحت مظلة الاجتثاث.
إن رئيس الوزراء السابق قد استغل هيئة الاجتثاث أو المساءلة والعدالة بشكل يخدم سلطته ورغبته بالاستفراد بالحكم، فقرب العسكريين الذين يدينون له بالولاء الشخصي من السنة والشيعة والكرد، دون النظر إلى مدى كفاءتهم أو وطنيتهم.. وقد أدى ذلك إلى الكوارث التي حصلت فيما بعد بتسليم مدن عديدة إلى ما يسمى بتنظيم الدولة اللاإسلامية (داعش)، كما تم استغلال قانون المساءلة والعدالة لاستثناء بعض الأشخاص، مثل رئيس مجلس القضاء الأعلى، فسخّره لتسييس القضاء وتحريف الدستور، وتمرير قرارات الاستبعاد من الترشح لمجلس النواب بناء على أوامر صادرة من رئيس الوزراء السابق.
كما جرى ربط الهيئات المستقلة برئيس الوزراء، مثل هيئة الإعلام، والمفوضية العليا للانتخابات، وهيئة النزاهة، وغيرها، مما جرَّد العملية السياسية من أي محتوى ديمقراطي حقيقي.
لقد شمل الاجتثاث كثيراً من موظفي الدوائر والوزارات من ذوي الاختصاص والخبرات المهنية، مما جردها من العناصر الكفوءة والمخلصة، وحلَّت محلها عناصر حزبية دينية شبه أمية، قادت البلد إلى هذا الخراب الذي وصل إليه الآن، وليس هذا فقط، بل شمل الاجتثاث منظمات المجتمع المدني من اتحادات ونقابات مهنية، ولم يسلم قطاع الثقافة والفنون من سطوة الاجتثاث؛ حيث تم إبعاد كثير من العناصر الفنية والأدبية والثقافية من العمل، مما دعاهم للهجرة إلى عمان ودبي وباريس، وأصبحوا يعرضون أعمالهم الفنية والثقافية هناك، وقد غابت قيم الثقافة والفنون العصرية؛ لتحل محلها قيم دينية ضيقة.
من كل ذلك يظهر التدمير الكبير والانهيار التام للبنى التحتية لكل مرافق الدولة والمجتمع بلا استثناء، ولم يتعرض أي قانون لمثل هذا التشويه والابتزاز وسوء التطبيق مثل قانون اجتثاث البعث.
وفي هذا المجال يحضرني تصريح وزير الخارجية البريطاني السابق فيليب هاموند، الذي نشر في الغارديان بتاريخ 7/7/2016؛ حيث اعتبر أن العديد من القضايا التي نراها اليوم جاءت بسبب القرار المأساوي لتفكيك الجيش العراقي وإطلاق برنامج اجتثاث البعث، واعتبر ذلك خطأ في التخطيط لما بعد النزاع المسلح.
إن قرارات اجتثاث البعث والتخبط في تطبيقها، واستخدامها كوسيلة من وسائل الضغط والابتزاز والتهديد، إضافة إلى دافع الانتقام والثأر الذي رافقها، والخلط بين الفكر القومي العربي مع الممارسات المستبدة للنظام السابق، قد ألحق الضرر البالغ بالدولة والمجتمع، وربما كان من الأفضل الاستناد إلى العدالة الانتقالية في محاكمة الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم في النظام السابق، والاستفادة من العناصر الكفوءة الأخرى.
وما زال في الوقت متسع لإعادة النظر بكل الإجراءات الخاطئة التي رافقت تطبيق قرار الاجتثاث، والبدء بمرحلة جديدة من التفهم البعيد عن الانتقام أو الابتزاز؛ حيث إن التسامح يعبر عن احترام الذات، وهو الحل الأمثل للتعايش السلمي، والبديل الإنساني السليم عن الصراعات والنزاعات التي لا يمكن أن تؤدي إلى حلول مُرضية مهما طال الزمن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.