"لا ترى كل ما تراه عينك ولا تسمع كل ما تسمعه أذنك" (وليام شكسبير).
جو باريسي بارد في إحدى ليالي الكريسماس لديسمبر/كانون الأول شهر الأحلام، أتذكر جلياً أول وليمة لي بباريس من طرف صديقي باتريك. كنا نجلس بغرفة المعيشة نتحدث في أمور روتينية.
تحدَّث باتريك: أتدري أيها الرفيق، لقد سبق لي أن زرت المغرب أنا وفرجينيا، إنه بلد جميل من جميع جوانبه الثقافية والتاريخية. الناس طيبون، الأكل لذيذ… بمناسبة ذكر الأكل، هل تعلم أن زوجتي طباخة محترفة وتحب المطبخ المغربي.
بمجرد ذكر باتريك الأكل، أحسست بغصة في حلقي واحمرّ وجهي، مؤشرات خجل لعدم معرفة ما يجب القيام به عند تقديم وجبة العشاء، أربكني كلام الأصدقاء عن طريقة الأوروبيين في توفير اللحوم بما لا يوافق الشريعة الإسلامية وتركيزهم على لحوم محرمة كلحم الخنزير واستعمالهم صلصات كحولية في تتبيل السلطات وتبهير اللحوم، إضافة إلى وضعهم الخمور على طاولاتهم.
فكرت في حل لمعضلتي، إذا اعتذرت عن الأكل بسبب مغص مفاجئ فلن أستطيع تكرير الأمر في مناسبة قادمة.. ما هذا الموقف المحرج الذي وقعت فيه!
قاطعني صوت فرجينيا:
– من خلال تجربتي الصغيرة ومعرفتي البسيطة، فإن العرب عموماً والمغاربة خصوصاً يستعملون التوابل، الخضراوات والفواكه ولا يستعملون النبيذ في طبخهم، كما أن اللحوم يجب أن تكون مصاحبة لشهادة حلال، لقد حاولت أن تكون الأطباق مزيجاً فرنسياً مغربياً مع احترام الخصوصيات الإسلامي،ة وأتمنى أن يعجبك الأكل.
بعدها مباشرة، أحسست بالارتياح التام.. بعد ترتيب الطعام على طاولة الأكل، تريَّث قليلاً، هكذا تقول فنون الإتيكيت في الثقافة الفرنسية. صاحبة البيت هي التي تحدد الأماكن بالنسبة للضيوف، كما أن صاحب البيت يجلس في مقدمة الطاولة، وزوجته بجانبه.
حننت إلى الأيام الخوالي في المغرب بعيداً عن كل البروتوكولات، حيث يجتمع الكل على الطبق الرئيسي بشكل دائري بعيداً عن كل السيناريوهات المحرجة، كانت طاولة الأكل مملوءة عن آخرها بكل ما لذ وطاب، مزيج من الوصفات يؤكد إتقان فن الأكل والطبخ، أطباق في غاية الروعة تمزج بين المطابخ التقليدية العالمية، دقة في اختيار المحتويات وجمالية في العرض.
كانت فرجينيا في منتهى اللباقة والأدب، لا تتوانى في ملء طبقي وتتكلم عن الأكل، تشرح المكونات ومحتويات كل طبق، مع تأكيد أن الصلصات خالية من النبيذ أو أي نوع من أنواع الكحوليات واللحوم مختومة بشهادة حلال.
صراحة، لم أجد الكلمات التي سأعبر بها عن امتناني وشكري، قمة البساطة واحترام تام للديانة الإسلامية التي أنتمي إليها.
سألت بعفوية: جلُّ المهاجرين يتحدثون عن الممارسة الفعلية للعنصرية داخل المجتمع الفرنسي على الأجانب، وخصوصاً على العرب، فما السبب؟
أجاب باتريك بسرعة فائقة:
إنها اليين اليانغ الدائرة تمثل الحياة، بينما اللونان الأبيض والأسود يمثلان التداخل بين طاقتين متضادتين، طاقة اليين "الأسود" أو الشر وطاقة اليانغ "الأبيض" أو الخير .
الكيانان المباشران في حدوث الحياة، وهما ليسا أبيض وأسود صافيان من كل الشوائب، ولكن يتداخلان في الحياة ويحتاج كل منهما للآخر، فهو مكمل له ولا يوجد أي منهم دون الآخر، مثل اليين اليانغ، سواء في المجتمع العربي أو الغربي، هناك الفالح والطالح، أينما ذهبت فإنك تجد الخير والشر، العقلية المتفتحة والعقلية المتشددة، كيف لشخص لم يفهم حتى ذاته ويتحكم في شهواته أن يتقبل الآخر ويتجاوب مع متطلباته!
أنا شخصياً معجب بالديانة الإسلامية؛ ففيها من الأخلاق والقيم ما فيها وتتميز بتوازن الأفكار والحقوق والعقائد وبفضيلة وحكمة خاصة.. ببساطة، الإسلام جميل وهادف يعمر الحياة بالحب وفى الوقت نفسه، يدافع عن الحق ويحارب الباطل. أنا ممتنٌّ أنني قرأت مجموعة من الكتب عن الإسلام قبل أن أعرف المسلمين. لا أعمم طبعاً كما قلت لك سابقاً، ولكن هناك بعض المسلمين لا هم مع الإسلام ولا مع أي ديانة أخرى، يتناقضون مع أنفسهم يطالبون بحق ممارستهم لديانتهم ويطالبون بحرية المعتقد ولا يطبقون من الإسلام إلا ما يريدون.
هكذا يختل المعنى وتختلّ الرؤية ويكون عدم التوازن، ومن ثم تحدث الكارثة ويكون التشويه للإسلام والمسلمين ويختل كل شيء.
كما أن هناك أشخاصاً بالمجتمع الفرنسي يعانون نقصاً في التربية والتعامل، ويُبدون ما يبدون من المعاداة والتحامل والكراهية والخوف من الإسلام والمسلمين ويعطون أحكاماً مسبقة وموجهة ضد الإسلام.
رددت بكل عقلانية وبعيداً عن هستيريا العاطفة:
– كلامك صحيح يا صديقي، ولكن هناك أمور تستوجب التوضيح، يجب ألا نطلب الحب والاحترام من المجتمع الفرنسي ونتوسل إليه ليعطف علينا ويرضى عنا، فالاحترام واجب والكرامة قيمة تولد مع الإنسان لا تُمنح وتُعطى.
المشكل لا يكمن في تعصب وعنصرية بعض فئات المجتمع الفرنسي أو تشويه سمعة الإسلام من طرف بعض المسلمين. "فالشاذ لا يقاس عليه"، إنما خطورة الموقف تمكن فيمن يغذي هذه العنصرية والتعصب ويؤجج الصراع ويضيق الخناق على الإسلام، يفرش الملذات ويفجر الشهوة ويسهل الطريق على الشباب المسلم، ثم يلبس لباس العدالة والخير والحرية ويتعهد بمحو وإزالة الشر والعدوان عن طريق التشهير والتشويش وربط أي أعمال وأفعال عنيفة تهدف إلى خلق أجواء من الخوف والرعب بالإسلام والمسلمين.
هذا الخيار يفرض الإرهاب ويرسمه في العالم بدلاً من محاولة تطويق مساحته ودراسة الأسباب التي تخلقه بنزاهة وعدالة وديمقراطية. كما أن الإعلام لا يتميز بالموضوعية والحياد، يغير الحقائق ويخدع الشعوب ويزيد من حدة الاحتقان والغضب والتعصب.
حتى أصبح الفرد في المجتمع الغربي يؤمِن بأن قيم المسلمين تفرض عليهم قتل الآخرين لمجرد مخالفتهم في مساراتهم الدينية وأهدافهم الأيديولوجية، مع العلم أن قيم الإسلام تدعو إلى التسامح والعفو وخلق مساحات كبيرة للتعايش.
ربط الإرهاب ومحاولة دمجه مع الإسلام وطمسه إذا كان استعمارياً موجهاً بهدف نهب خيرات البلدان، أو اقتصادياً بهدف توسيع الهوة بين الدول الغنية والفقيرة، أو فكرياً بهدف نشر أفكار وأيديولوجيات معينة ومتطرفة يزيد الطين بلة. عموماً الحديث يطول ويطول وله مجموعة من العوامل والمحددات، ورهاناته صعبة لا يمكننا أن نتطرق إليها في جلسة واحدة، تبقى أصعب معركة في رحلة الحياة هي تلك التي تدفعك إلى تغيير المبادئ والتخلي عن الكرامة لتصبح شخصاً آخر مجهول الهوية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.