الرحلة إلى قرى الأطلس الصغير الوادعة “2”

ذكر لي اسمه بالأمازيغية، لكنه ضاع من غربال الذاكرة التي لم تحتفظ إلا بترجمته للاسم بالعربية: قفا الأصبع. قالها، وقد أشار إلى أصبعه مثيراً في مخيلتي كم تترك مهنة التعليم على المعلمين من حب للإيضاح.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/04 الساعة 03:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/04 الساعة 03:11 بتوقيت غرينتش

"سألت عن الطريق إلى إفران كرّة أخرى النادلة التي تبدو على ملامحها أنها بنت هذه الأرض، رغم أن ملابسها ووزرتها العصرية أخفت وشم انتمائها الأمازيغي الذي عرفته ممن مررت بهن من النساء؛ وهن يصطحبن صغارهن عائدين من المدارس التي يبدو أنها أضحت في هذه المدينة الوادعة علامة تميّز فاقعة على التفاوت الاجتماعي، فقد رأيت بأُم عيني سيارات نقل مدرسي تسلك الطريق نفسه الذي سلكته، مع أبنائهن، النساء الملتحفات لباساً يغلب عليه البياض، لا تخفى هويته التراثية الأمازيغية.

بانت عدم دراية النادلة بالطريق إلى إفران، فابتلعت لساني حتى أجد من آنَس بأنه خريت ماهر بمسالك الطريق… لم أرَ بأساً من سؤال حارس السيارات في الشارع المقابل للمطعم، وجدته أخرس يرطن بكلام لم أتبين مقصوده، فصرفت عنه النظر باحثاً عن سائق سيارة عمومية.

ألفيت بمقهى غير بعيد ثلة من السائقين دلني عليهم بسخاء وتطوع رجل مربوع القامة أسمر اللون، ما إن شرعت أسائِلهم عن الطريق حتى طلع رجل قصير القامة، لا يطولني سوى بنصف متر تقريباً، بدت عليه أمارات التقدم في السن، رأسه أشيب إلا قليله، جبهته كستها التجاعيد، صافحني قبل أن ينهي شيخ السائقين أو أكبرهم سناً كلامه عن الطريق؛ إذ قال، وقد فغر فاه حتى بدت فجوة بائنة تتوسط أسنانه: ها مَن يصطحبك حتى يبلغك غايتك. تبسمت بسمة فاترة، فما كنت متحمساً لاصطحاب غريب… زالت دهشة التعرف على الغريب بعد أن سارع إلى بث الطمأنينة في قلبي، فقد بادر دون طلب إلى إشهار بطاقتين تحملان صورته نفسها، طالعت البطاقة الوطنية، واكتفيت منها بقراءة اسمه بالعربية: درويش، وقال بصوت خفيض قبل أن ألقي نظرة على البطاقة الأخرى: هذه بطاقة تعريفي الألمانية. لي جنسيتان؛ مغربية ألمانية، إنني الآن مقيم بألمانيا، وإنما أتيت إلى هنا من أجل تسوية أمور إدارية.

Haut du formulaire

"تهللت أسارير وجهي، عرفت الرجل على هويتي، وما إن علم بمقدمي من الرباط حتى طفق يستعيد لحظات من سيرته الدفينة. لقد وُلد لأبوين من أيت سملال بمكناس، عاش سنواته الأولى بمدن الشمال التي كان من أفضالها عليه الالتحاق المبكر بالمدرسة، وكان من أوائل الأطر التي اشتغلت في ميدان التعليم قبل أن يحزم حقائبه ويهاجر إلى فرنسا عقب انقلاب الصخيرات الفاشل مطلع السبعينات؛ ليعود منها بعد فترة وجيزة، ثم يقرر بعدها الهجرة مرة أخرى؛ حيث قر به القرار في ألمانيا التي يحرص بين الفينة والأخرى على ذكر كلمات منها لا أفهم معانيها إلا بعد أن أسأله عن معناها.

أيقنت حينها أن من يتحدث لغة زائدة عن لغته الأصلية، كمن يملك لسانين! كان صاحبي الذي أزال بروح دعابته كل سأم محتمل، يحفظ كثيراً من الشعر القديم، لا بل إنه أتحفني بقصائد جميلة للمتنبي قبل أن ينعطف به التذكر إلى أبي نواس وخمرياته… قال بصوت المنتشي بمحفوظاته الثمينة: الشعر جميل، وأجيال اليوم لا تحفظ منه إلا القليل!

سرنا عبر مسالك ضيقة حتى وافينا منطقة "تهلالة"، أراني بإشارة الأصبع مركز إداريا بالمنطقة (لعله مقر الجماعة)، ولم ينطق اسمها إلا على إيقاع قهقهة ساخرة: "تهلالة، لا، لا، لا دين لا ملة".

عندها بادرته بالسؤال عن يهود المنطقة ومقابرهم وآثارهم، وقد وضعت في مخيلتي صورة كتابات ونقوش يهودية بمنطقة تهلالة، أبدع في التعريف بها مقدم برنامج أمودو الذي أنصت إليه بشيء من اللهفة والشوق إلى المعرفة حين ولجت متجراً بتافراوت يبيع بعض التحف الموجهة للسياح، وبطائق بريدية تتضمن صوراً بعض معالم المدينة.

لم يقف صاحبي بما ليس له به علم من تاريخ يهود "تهلالة"، وإنما اكتفى بالقول: كان اليهود المغاربة بقرى الأطلس الصغير أفضل تعاملاً من بعض المسلمين! ثم أردف: عندما يعرف أنك مغربي تتحدث الأمازيغية، لا يتردد في الحديث معك بالأمازيغية، وجلهم حرفيون مهرة!. أدركت أنه عرف بعضهم قبل أن يهاجروا بعد نكبة فلسطين، لكنني آثرت أن أغير مجرى الحديث قليلا؛ كي أعيد الساحرة تافراوت إلى دائرة الكلام، فعاجلته بسؤال عن معلم طبيعي جميل، ينتصب على ربوة عن يسار الداخل إلى تافراوت قادماً من تزنيت.

فانشرح، وتكلم بشيء من البهجة قائلاً: إذا حق للمصريين أن يفاخروا بالأهرام، فيحق لأمازيغ تافراوت الافتخار بهذا الهرم الذي نحتته الطبيعة.

ذكر لي اسمه بالأمازيغية، لكنه ضاع من غربال الذاكرة التي لم تحتفظ إلا بترجمته للاسم بالعربية: قفا الأصبع. قالها، وقد أشار إلى أصبعه مثيراً في مخيلتي كم تترك مهنة التعليم على المعلمين من حب للإيضاح.

لقد غادر هذا المهاجر ميدان التعليم باكراً، لكن، بقيت آثار المهنة بادية راسخة تعلن عن الظهور في كمّ محفوظاته من الشعر، ومهارته في إيضاح المعنى بالإشارة والتشخيص.

ذكرني، في الواقع، بمقالة محامٍ بارع في الدفاع، عندما أعجبته طريقة تقديم محاضرة أيام التجربة اليتيمة (الجامعات الشعبية)، فقال: أدركت أنكم، يا رجال التعليم، أقدر على البيان منا نحن المحامين!

Haut du formulaire
J'aimeAfficher plus de réactions
CommenterPartager
Bas du formulaire

وصلنا إلى قرية "جمعة أيت سملال"، فافتر ثغر صاحبي عن بسمة عريضة، ما نشب أن قال: هذا موطن أجدادي، هنا تنعقد سوق أسبوعية كل جمعة، يوافيها الناس من كل المداشر المجاورة.

هممت بالتوقف، فطن صاحبي، فقال من فوره: تابِع مسيرك، لم أصل بعد إلى منزلي الواقع في مدشر صغير خلف ذاك الجبل.

همزت دواسة السرعة، صعدت الجبل حتى إذا بلغته موضعاً وسطاً واطئاً، أشار صاحبي عليَّ بالتوقف هنيهة كي نرى "جمعة أيت سملال" من عل! كان المشهد رائعاً، لكنه بدا لي متعباً لثلاثة من الشباب رأيتهم يصعدون الجبل مشياً على الأقدام، فأشفقت لحالهم. استأذنني صاحبي في أن نركبهم معنا، فأبديت موافقتي طرباً غير متردد، تطوع صاحبي قبل استئناف السير بأخذ صورة لي تظهر القرية الثاوية خلف الجبل الذي كسته أعشاب خضراء لا تخطئ العين نضارتها.

سألت صاحبي بشيء من الفضول: هل هذه القرية تنتمي إليها أصول السملاليين الذين أسسوا إمارة إيليغ؟

اكتفى بجواب مقتضب: لست أدري، فجال في خلدي أن السؤال عن إمارة زالت بما لها وما عليها غير ذي بال، عند صاحبي، وما رسخ في ذاكرتي عن قصور النظر الذي رمى به الصحفي المخضرم مصطفى العلوي بعض السملاليين الذين رضوا بإطلاق سراح الشريف في صدر قيام الدولة العلوية لن ينشرح صدر صاحبي لمناقشته، كما حدث لي يوماً حين سألت زوجة الراحل محمد عزيز لحبابي عن رأيها فيما كتبه الصحفي نفسه عن "آل الجامعي" وأسباب إبعادهم عن حمى البلاط أيام زمان، فلم تزد الأستاذة الجامعة الذكية على القول: كلام صحف وحساد!

وافيت المدشر الصغير بعد مسير يقل عن نصف ساعة، انتهزها صاحبي للإشادة بهمة هؤلاء الشباب الذين اصطحبناهم، وهم ليسوا سوى طلبة يتلقون العلوم الشرعية بإحدى المدارس العتيقة، يقطعون الطريق جيئةً وذهاباً مساء الأربعاء، كي يتمتعوا برؤية أهلهم في عطلتهم الأسبوعية يومَي الخميس والجمعة خلافاً للعطلة الرسمية في الإدارات والمدارس العمومية، وللخميس في مأثوراتنا الشعبية شأن لطيف ومريب: لخميس ما يقرا غير الحمار بوتليس!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد