بعد حملة انتخابية غير مسبوقة اتسمت بعديد من الاضطرابات السياسية، أكدت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لفرنسا على أن الجمهورية في غمرة تحقق أحد أشكال التجديد الجذري.
على الرغم من عدم وجود شيء جديد -فقد زعزعت الاضطرابات الحياة السياسية الفرنسية لأشهر عديدة حتى الآن- أبرز الاقتراع الذي جرى يوم الأحد أزمة الديمقراطية والأزمة التي تواجهها المؤسسة السياسية التي تشهدها هذه الأمة، وتشهدها أيضاً كثير من الأمم الأخرى في مواجهة الشعبوية والعولمة.
ويعد هذا هو المثل الوحيد خلال أكثر من ستة عقود ترى فيه فرنسا مرشحاً لمنصب الرئيس في الجولة الثانية يرفض في نهاية المطاف الأحزاب التقليدية من اليسار واليمين؛ لذا فأيما يفوز في الجولة الثانية في شهر مايو/ أيار، سواء كان مرشح الوسط إيمانويل ماكرون أو مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، سوف تنتظره أي منهما مهمة صعبة متمثلة في احتواء حالة التمرد المستشرية، وكذلك الدفع بالسياسات الجديدة.
في خريف 2016، بدأ هذا التحول في التبلور عبر نتائج الانتخابات التمهيدية للأحزاب الرئيسية. شهد حزب "الجمهوريون" إقصاء نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق، وأيضاً ألان جوبيه، الذي شغل منصب رئيس الوزراء تحت حكم الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.
وفي ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، قرر فرانسوا هولاند، الرئيس المنتهية ولايته، ألا يترشح مرة أخرى لإعادة انتخابه بسبب شعبيته المنخفضة. وفي يناير/ كانون الثاني، أُقصي مانويل فالس، رئيس الوزراء السابق، من الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي.
استمر الناخبون بعزيمة لا هوادة فيها في زعزعة جميع أجزاء المؤسسة السياسية الأقدم والأرسخ، جارفين في طريقهم الأحزاب التقليدية.
والآن، لأول مرة في هذا النظام الحكومي الحالي، لا يوجد أي من الأحزاب الكبيرة لليمين واليسار، التي شكلت الحياة السياسية لفرنسا على مدى أكثر من 60 عاماً، حاضراً في انتخابات الإعادة لشغل منصب الرئيس، لم يحصل بونوا هامون، مرشح الحزب الاشتراكي الحاكم، سوى على حوالي ستة بالمائة من إجمالي الأصوات، كما حصل فرنسوا فيون، مرشح حزب الجمهوريون، على ما يقرب من 20 بالمائة من إجمالي الأصوات؛ إذ إن ما يقرب من ناخب واحد بين كل أربعة ناخبين أدلى بصوته لصالح إحدى القوتين الرئيستين اللتين قادتا السياسات تاريخياً في السنوات الأخيرة.
فيما أعطى المرشحان اللذان اعتلا قائمة نتائج أصوات الجولة الأولى من الانتخابات، واللذان سيواجه كل منهما الآخر خلال أيام، إشارة واضحة تفيد بأنهما لا يرغبان أن يكونا جزءاً من نموذج ثنائية اليمين واليسار.
يصف إيمانويل ماكرون، الذي حصل على حوالي 24 بالمائة من الأصوات، نفسه بأنه مرشح الوسط، وأطلق منذ عام حركة جديدة تسمى "آن مارش" -وتعني "إلى الأمام"- تزعم أنها تجذب مؤيدين من اليمين واليسار والمجتمع المدني. ترفض أيضاً مارين لوبان، التي حصلت على حوالي 22 بالمائة من الأصوات، الانقسام القديم بين اليمين واليسار، وتنوي أن تلعب على وتر الاختلاف بين "الوطنيين" وبين "أنصار العولمة".
لذا فإن هذا التحول يعتبر تاريخياً في فرنسا؛ لأن القوى القادمة من أحد المجتمعات المفتوحة والأخرى القادمة من أحد المجتمعات التي تركز على الهوية القومية يعادي كل منهما الآخر بطريقة لم تعتَد عليها البلاد.
لكنه أيضاً نموذجٌ ليس مغايراً لما يشهده العالم في المناطق الأخرى، فقد شهدت بريطانيا العظمى "البريكسيت"، وشهدت الولايات المتحدة انتخاب دونالد ترامب رئيساً للبلاد، كما أن عدداً متزايداً من البلدان تواجه أزمة حقيقية في نظام مؤسساتها السياسية وتكتشف قوى المعارضة عندما تواجه قضايا من قبيل العولمة، أو نمطاً من أوروبا المتحدة، أو حتى قضية الحدود.
تنبع هذه الثنائية الجديدة في المشهد الانتخابي من الفجوة الاجتماعية بين الطبقات العليا والطبقات المتوسطة من ناحية، وبين الطبقة العاملة من ناحية أخرى.
وقد رأيناها هنا يوم الأحد الموافق 23 أبريل/ نيسان؛ إذ إن 33 بالمائة من الموظفين صوتوا لصالح إيمانويل ماكرون، فيما صوت 37 بالمائة من العمال لصالح مارين لوبان، حسبما أورد استطلاع "إبسوس"، يضاف إلى ذلك أن 27 بالمائة من الناخبين الذين يعملون في إحدى المهن المزدهرة صوتوا لصالح ماكرون، في حين أن 30 بالمائة من الناخبين الذين يمارسون إحدى المهن التي تشهد سوقها تراجعاً صوتوا لصالح لوبان.
والأكثر من هذا أن 32 بالمائة ممن قالوا إنهم يستطيعون بسهولة الحصول على ما يرغبون فيه عن طريق دخولهم الأسرية المعيشية صوتوا لصالح ماكرون، بينما صوت 43 بالمائة ممن قالوا إنهم يجدون صعوبة في ذلك صوتوا لصالح لوبان؛ لذا تعد المواجهة في فرنسا مواجهةً على الصعيدين: السياسي والاجتماعي.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن إيمانويل ماكرون يمتلك حظوظاً أفضل في انتخابات الإعادة. مع ظهور نتائج الجولة الأولى، أظهرت الاستطلاعات أن 60 بالمائة من المصوتين أشاروا إلى نيتهم في التصويت لصالح ماكرون في الجولة القادمة، بينما عبر 38 بالمائة فقط عن تفضيلهم للوبان.
بيد أن زعيمة اليمين المتطرف، التي واصل منهجها المُعادي للهجرة في إخافة عدد من الناخبين الفرنسيين، حصلت على 20 بالمائة أكثر من النسبة التي حصل عليها والدها – جان ماري لوبن الذي شارك في تأسيس حزب الجبهة الوطنية – في انتخابات الإعادة عام 2002، عندما حصل على 18 بالمائة. والجدير بالذكر أن الاحتجاجات القومية قطعت أشواطاً كبيرة خلال الأعوام الـ 15 الأخيرة وربما تستمر في إحداث مزيد من التأثير في الحياة السياسية الفرنسية، حتى إذا خسرت لوبان.
إن فاز ماكرون بالرئاسة خلال هذا الشهر، سوف يواجه تحديين إضافيين، يكمن أولهما في أنه يتوجب عليه تجاوز حركة يسارية متطرفة قوية متمركزة حول جان لوك ميلونشون، المرشح الذي حصل على 19 بالمائة من الأصوات، فيما يكمن الثاني في وجوب جمع أغلبية في الانتخابات البرلمانية القادمة في شهر يونيو/حزيران والتي لن يستطيع الرئيس الفرنسي الجديد بدونها أن يمضي قدماً في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.
وبعد أن عزز حظوظه بوجوده بين المرشحين النهائيين، أفصح إيمانويل ماكرون عن نيته "برفضه الكامل لنظام طالما أظهر عجزاً في التعامل مع مشكلات (الفرنسيين) لأكثر من 30 عاماً".
من المؤكد أنه يمتلك الطموح لتحقيق ذلك، إلا أنه سوف يحتاج أيضاً أن ينال الوسائل السياسية إن أراد تحقيق هذا الطموح على أرض الواقع، فلن تكون المهمة سهلة.
ترجم بيل ويبر هذه المادة من الفرنسية إلى الإنكليزية وحررها بهدف التوضيح.
– هذه التدوينة مترجمة عن النسخة الأميركية لـ"هاف بوست". للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.