ذات يوم في أوائل أبريل/نيسان كان شاهر سعيد يقود سيارته جنوبي مدينة العريش في محافظة شمال سيناء عندما قابل مجموعة من أفراد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وشاهدهم يوقفون شاحنة محملة بالسجائر.
وقال شاهر الذي يقيم في العريش "كنت أقف بسيارتي خلف سيارة نقل سجائر. وشاهدتهم يجبرون سائق تلك السيارة على النزول وخلعوا الجزء العلوي من ملابسه وربطوه في باب سيارة خاصة بهم وضربوه على ظهره أكثر من 10 مرات بعد أن أحرقوا كل كراتين السجائر التي كانت في سيارته.
تأتي ممارسات التنظيم المتشدد في الوقت الذي تعلن فيه الأجهزة الأمنية المصرية والقوات المسلحة أنها تسيطر بشكل كامل على الأمور في شمال سيناء، وأن التنظيم المتشدد ينحسر ويتراجع تأثيره.
"بعدها تركوه، بعد أن حذروه من تكرار تجارة السجائر. وبعدها انصرف المسلحون من المكان مستقلين سيارتين إحداهما دفع رباعي والأخرى ملاكي".
تشير مقابلات مع سكان شمال سيناء ومراجعة لقطات فيديو نشرها التنظيم إلى أن فرعه المحلي المعروف باسم ولاية سيناء يسعى لفرض فهمه للشريعة الإسلامية على السكان المحليين للمرة الأولى.
قوة حسبة
وتوضح لقطات فيديو لولاية سيناء أن التنظيم أسس قوة حسبة تتولى مسؤولية تطبيق قواعده المشددة التي تحظر سلوكيات مثل التدخين وحلق اللحى بالنسبة للرجال أو كشف الوجه بالنسبة للنساء.
وتمثل هذه التطورات التي ترافقت مع زيادة حادة في الهجمات على المسيحيين داخل منطقة العمليات الرئيسية في شمال سيناء وخارجها تحولاً كبيراً في أساليب ولاية سيناء.
ففي السابق كان التنظيم يركز على مهاجمة رجال الشرطة والجيش ومن يتعاونون معهم.
ويعد اتساع النطاق الجغرافي لنشاط التنظيم والتحول الذي طرأ على بؤرة اهتمامه تحدياً للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي تولى السلطة عام 2014 وتعهد بالقضاء على التطرف الإسلامي وإعادة الأمن.
ولايزال التنظيم يشن هجمات دموية في مصر رغم الحملات التي شنتها الحكومة وأسفرت عن مقتل مئات المسلحين وسجن الآلاف من أصحاب الفكر المتطرف.
وتعكس التطورات مدى توسيع ولاية سيناء لعملياتها في مصر أكثر الدول العربية سكاناً في وقت يواجه فيه التنظيم انتكاسات في سوريا والعراق وليبيا. ورغم أن التنظيم لم يستطع السيطرة على مساحة من الأرض في مصر فهو يحاول إذكاء التوترات الطائفية والقلاقل الاجتماعية.
في تسجيل بالفيديو مدته 25 دقيقة نشر في أواخر مارس/آذار على قناة على الإنترنت يستخدمها التنظيم يظهر متشددون وهم يعلنون إنشاء قوة الحسبة في شمال سيناء على غرار وحدات الشرطة الدينية العاملة في بعض مناطق العراق وسوريا الخاضعة لسيطرة الدولة الإسلامية.
ويندد التسجيل بالمسيحيين والمتصوفين وظهرت فيه لقطات لأفراد من التنظيم، يرتدون سترات عليها علامات توضح أنهم من قوة الحسبة في ولاية سيناء، وهم يحرقون سجائر ومخدرات مصادرة ويدمرون مقابر وأضرحة يعتبرونها حراماً.
وفي الفيديو يحذر شاب من المتشددين لا يرتدي لثاماً من أن رجال الحسبة سيعاقبون المخالفين وفقاً لأحكام الشريعة. ويظهر رجال من التنظيم وهم يجلدون رجلاً بخرطوم من البلاستيك ويقطعون رأس رجلين مسنين من المتصوفين ويتهمونهم بالكهانة والكفر. ولم تستطع رويترز التحقق من صحة الفيديو الذي اختفى من على الإنترنت منذ ذلك الحين.
وامتنع المتحدث باسم القوات المسلحة المصرية عن التعقيب على الأحداث في شمال شبه جزيرة سيناء التي تتمتع بأهمية استراتيجية
وهون مصدر أمني من المخاوف من قدرة المتشددين على نشر العنف الطائفي على نطاق مماثل لما حدث في العراق.
وأضاف "إنهم يحاولون إحداث تأثير. ونحن لا نقول إننا قضينا تماماً عليهم. لكن هذا الكلام ضعيف".
بدأ التحول الأخير في أساليب المتشددين في ديسمبر/كانون الأول عندما قتل مفجر انتحاري من التنظيم 28 شخصاً في كنيسة بمجمع الكاتدرائية القبطية الرئيسية في قلب العاصمة المصرية.
ورحلت حوالي 175 أسرة هاربة من المنطقة. وقال بعض النازحين لرويترز إن قوائم للمستهدفين من المسيحيين من سكان المنطقة انتشرت على الإنترنت أو دست في البيوت من تحت الأبواب.
وفي الشهر الماضي قتل رجال التنظيم ما لا يقل عن 45 شخصاً في تفجيرين بكنيستين خلال احتفال المسيحيين بأحد السعف الأمر الذي دفع السيسي لإعلان حالة الطوارئ.
قال مختار عوض الزميل الباحث ببرنامج دراسة التطرف في جامعة جورج واشنطن إن الحملة الجديدة على المسيحيين محاولة لتمزيق نسيج المجتمع والدولة لتحقيق ما فشلت في تحقيقه الوسائل الأخرى.
وأضاف "حدث هذا التصعيد الآن بسبب تضافر عدة عوامل. وهم يأملون أن تكون تلك هي الخطوة الأولى نحو تفكك البلاد".
وبالإضافة إلى شن هجمات في مدن كبرى مثل القاهرة والإسكندرية وطنطا حيث وقعت تفجيرات الكنائس بدأ المتشددون ينتشرون في مناطق أبعد بشمال سيناء.
ففي حين كانت العمليات تتركز حول مدينتي رفح والشيخ زويد بالقرب من الحدود مع قطاع غزة اتجه المتشددون لشن المزيد من الهجمات في مدينة العريش عاصمة المحافظة وحولها والتي تقع على بعد حوالي 52 كيلومتراً إلى الغرب من الحدود مع القطاع.
مهجورة ومدمرة
منذ عام 2014 عندما أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس المتشددة في سيناء مبايعة تنظيم الدولة الإسلامية لجأت مصر إلى وسائل أشد تدميراً للقضاء على المتطرفين.
فقد دمرت شبكة أنفاق قالت انها تستخدم لتهريب السلاح من غزة وهدمت مئات البيوت لإنشاء منطقة عازلة وشنت العديد من الضربات الجوية. وحالت هذه السياسات دون سيطرة المتشددين على مساحة من الأرض لكن الثمن كان باهظاً على السكان المحليين.
وعلى الطريق السريع الذي يربط بين الشيخ زويد ورفح تقع حوالي 14 قرية. ويقول سكان في المنطقة الآن إن 11 قرية منها أصبحت مهجورة.
وتجول صحفي من رويترز في ثلاث من تلك القرى بسيارة في أكتوبر/تشرين الأول وشاهد شوارع مهجورة وبيوتاً مدمرة وبساتين قطع الجيش أشجارها لحرمان المتشددين من فرصة الاختباء فيها.
في قرية الظهير اختفى حوالي نصف السكان. أما من بقوا فيها فقالوا إنه لم يكن أمامهم بديل آخر.
وقال سليمان أبو حميد "نحن نعيش على زراعة الأرض قرب بيتنا بالطماطم (البندورة) والبقول وغيرها ونأكل منها. وإذا ذهبت إلى العريش فلا مال عندي لاستئجار شقة وإذا تمكنت من إيجاد شقة فكيف أجد المال للطعام؟ قوات الأمن حاصرت الإرهابيين لكنها حاصرتنا نحن أيضاً".
وفي قرية المقاطعة بالقرب من الشيخ زويد انتشرت في الشوارع أكوام من الركام حيث كانت البيوت قائمة من قبل. وحتى البيوت التي سلمت في الحرب الدائرة منذ ما يقرب من أربع سنوات بين الجيش المصري وولاية سيناء هجرها أصحابها.
يعمل كرم الزبيدي الذي كان يقيم فيما سبق في قرية المقاطعة في مكتب بريد العريش ويبلغ مرتبه 1200 جنيه مصري (حوالي 66 دولاراً) في الشهر وليس لديه خطط للعودة للقرية في الوقت الحالي.
وقال الزبيدي "في أي لحظة يمكن أن تقتلني غارة جوية أنا وأولادي". وأضاف الزبيدي الذي دمر الجيش أشجار الزيتون الخاصة به "زرعت طماطم لكني لم أستطع الحصول على الوقود للمحرك الذي يسحب الماء من البئر ولذلك لم أستطع العيش هناك".
اعتاد أبناء الزبيدي الذهاب إلى المدرسة في الشيخ زويد لكنه قال إن ذلك أصبح محفوفاً بمخاطر شديدة ويستهلك وقتاً طويلاً بسبب الحواجز الأمنية التابعة للجيش والشرطة على الطريق. وأضاف الزبيدي إن كثيرين ممن بقوا في القرى الآن يعلمون أولادهم في البيت.
حواجز أمنية
في بعض مناطق الطريق الممتد بين الشيخ زويد ومدينة العريش، التي كانت في وقت من الأوقات مقصداً للزائرين بفضل شواطئها ومطاعم المأكولات البحرية، أصبحت المسافات قريبة بين الحواجز الأمنية للجيش والشرطة حتى أصبح من الممكن لمن يقف عند أحدها رؤية الحاجز التالي.
ولمنع التفجيرات وحوادث إطلاق النار تقيم قوات الأمن حواجز خرسانية على نحو متعرج أو تقيم خطوطاً دفاعية مدعمة بأكياس الرمل.
وتجبر بعض الحواجز الأمنية السيارات على الالتفاف بعيداً عن الطريق الرئيسي. غير أن سكاناً محليين يقولون إن مثل هذه الإجراءات لم تمنع مقاتلي التنظيم من إقامة نقاط تفتيش مؤقتة حيث يتولون فحص أوراق الهوية ويطلبون من النساء تغطية وجوههن وينفذون عقوبات علنية.
قالت معلمة أنها كانت في طريقها من العريش إلى المدرسة التي تعمل فيها في رفح في أواخر فبراير/شباط عندما أوقف ثلاثة مقاتلين مسلحين وملثمين من تنظيم الدولة الإسلامية حافلتها.
وروت لرويترز أن اثنين من المسلحين صعدا إلى الحافلة ونصحا النساء بتغطية وجوههن والسفر مع محرم.
وأضافت أن الأمر تكرر بعد بضعة أيام. وفي تلك المرة ترافقت النصيحة بارتداء النقاب مع تهديد بالعقاب جلداً أو بمواد حارقة لمن يرفضن الامتثال.
وقالت المعلمة أنها لم تمتثل للأمر، لكن أضافت "الوضع صعب والناس خائفون".
وامتنعت عن ذكر اسمها بالكامل خشية انتقام مقاتلي الدولة الإسلامية الذين قطعوا رؤوس بعض السكان المحليين ممن يتهمونهم بمخالفة أحكام الشريعة وفقاً لتفسيراتهم أو بالتعاون مع إسرائيل أو قوات الأمن المصرية.
وكانت هذه المعلمة واحدة من معلمتين قالتا لرويترز إن مقاتلي الدولة الإسلامية صعدوا إلى حافلاتهن.
قال إبراهيم التدوي وكيل وزارة التربية والتعليم في محافظة شمال سيناء إن المعلمين يسافرون كالمعتاد في حافلات تنظم الوزارة تحركاتها من العريش إلى المدارس في رفح.
وأضاف قائلاً لرويترز هاتفياً "العملية التعليمية في شمال سيناء في أمن وأمان واستقرار. والدراسة تستمر لطلابها ومعلميها بالإدارات الست".
ورغم تشديد الأمن قال سكان في جنوب رفح إن مقاتلي التنظيم صادروا أطباقاً لاستقبال بث الأقمار الصناعية وقال سكان في العريش إن متجراً كان يبيع شرائط الفيديو وأقراص الدي في دي تعرض للاعتداء. ولم تستطع رويترز التوصل إلى صاحب المتجر الذي أغلق أبوابه.
وامتنع المتحدث العسكري عن التعليق.
وقال المصدر الأمني إن المتشددين عجزوا عن فرض أنفسهم على المجتمع.
وأضاف "كل هذا عبث. موضوع الكمائن.. ينزلوا دقيقتين يصوروا عربيتين ويقولوا عملنا كمين. كل هذا موجه لوسائل الإعلام للناس من أمثالك ليكتبوا عن أمور لا تمت بصلة للواقع على الأرض".
وتقول الشرطة وسكان في العريش إنه رغم تحقيق الجيش بعض النجاح في تطهير المناطق الحدودية من المتشددين فقد ظهر المسلحون في أماكن أخرى. ويقولون إن المتشددين انتقلوا إلى المدينة وانتشروا من خلال الاختباء بين السكان المدنيين.
وقال بدر علي الشرطي بإحدى نقاط التفتيش "المناطق التي كانوا يعيشون فيها لم تعد موجودة. وفيها الآن وجود أمني كبير. والآن بدأوا يخرجون إلى الشوارع في المدينة لمهاجمتنا ثم الاختباء بين الناس. والمشكلة إن الناس يخافون من الإشارة إلى المسلحين إذا رصدوهم".
وقالت منى برهوم الناشطة الحقوقية في رفح إنه رغم أن المتشددين لا يسيطرون على المنطقة فهم يريدون تأكيد وجودهم.
وقالت "نحن لا ننكر أنهم موجودون لكنهم يعطون للإعلام صورة أنهم مسيطرون على سيناء. لا.. نحن لا نقول إنهم مسيطرون لكنهم موجودون".
وأضافت إنهم يظهرون فجأة "مرة واحدة. يخطفوا حد أو يصفوا حد ويتخبوا".