حدث لي ذات مرة أن ربت على كتفي أحد أساتذتي وهو يردد كلمات تنويه، كانت جدّ محفزة ومشجعة، جعلتني أرغب في أن أقبل نفسي فخراً بما صنعته وامتناناً بما سمعته أذناي.
كذلك يوم ذهبت إلى طبيب الأسنان والخوف من خلع الضرس كان يؤلمني أكثر من الألم نفسه، ولكن ما إن رأى الطبيب خوفي الشديد فما كان منه إلا أن ألقى بكلمات مهذبة على مسامعي فهدّأ من رَوعي واستجبت لعملية الخلع دون أي ضرر نفسي، بعدما أزال الطبيب بالكلمات الحنونة مخاوفي وخرجت من عنده متجاوزة لحظة الضعف الإنساني التي أصابتني جراء الألم.
كلمات الأستاذ والطبيب نحتت على ذاكرتي وراحت ترافقني أينما حللت وارتحلت، لا تقل عنها التصاقاً، كلمات جارنا حين وصفني بأقبح الأوصاف وشتمني بألفاظ نابية؛ لأننا كنا نلعب قرب منزله.. هذه وتلك كلها كلمات أتذكر بعضها فأبتسم وأخرى اشمئز منها.
الكلمة طاقة لا يستهان بها، منها الإيجابية والسلبية، ولكون الإنسان مستقبلاً ومصدراً للطاقة، يظل شديد التأثر والتأثير بها، فبالكلمة يخسر الإنسان دنياه وآخرته، بالكلمة يحتال المجرمون على ضحاياهم، بالكلمة ينجح الإنسان وبكلمة ينحط ويفشل، بكلمة فقط قد تغير مجرى حياة شخص أو أمة حتى.
لولا صلابة وقوة فن الكلام لما كان أساس جل مهارات الإقناع في كل العلاقات، "الاجتماعية منها" فعلى سبيل المثال يحبك المحامي شبكة ذكية من الكلمات والعبارات التي من شأنها الدفاع عن المتهم، كذلك القاضي الذي يوجب الاستماع إلى الجاني قبل الحكم عليه، "والإنسانية"، فالأم تغفر كل زلات أطفالها بعد تقديمهم لها عبارات الندم، والاعتذار، والاحترام والحب، ليس علاوة على العلاقات السياسية، فالزعماء ليسوا في حاجة إلى كيمياء بل إلى خطابة وحنكة وحكمة في الكلام.
تبرز عظمة هذا الفن كذلك في القوة الخفية للنصيحة، تغريني هذه الكلمة لأذكر توبة العديد من الضالين عن هدي الله -سبحانه وتعالى- على يد دكاترة ودعاة مسلمين، لا تقل عنها الموعظة الأسرية لكونها لبنة أساس التربية الصحيحة والتوجيه السليم.
أقول إنها فن وليست علماً؛ لأن الفن يبحث عن الجمال، تماماً كجمال الكلمة الطيبة التي تفتعل سحراً من شأنه أن يحول أرضاً قاحلة خالية من الحياة إلى أرض خصبة مليئة بالحيوية والنشاط، بشعلاته الوديعة التي تجعل الهواء أكثر دفئاً وحنية، إنها الشجرة التي لا تنام، تنتصب وتعلو وحدها يكفي زرعها.
أما علمياً، فقد ثبت كون الكلمة الخبيثة تترك جروحاً حقيقية في الدماغ، وتميت عدة خلايا أو تتلف عملها مسببة نوعاً من العطل في التفكير زيادة على تعكيرها الأجواء والحد من قدرات الشخص وملكاته الإبداعية والطبيعية حتى.
وهنا أستحضر تجربة العالم الياباني أموتو؛ حيث قام بوضع زجاجتين كل واحدة منهما تحتوي على أرز مسلوق، فكان منه أن قال للأولى: "شكراً لك"، وللثانية: "أكرهك"، وبعد مرور شهر، الزجاجة الثانية كان قد اسود الأرز بها وتعفن، بينما كانت الأولى أقل تعفناً وبقي الأرز أبيض اللون.. نعم، إنه أثر الكلمة الطيبة على الروح تغسلها، تطهرها وتحميها من كل عفن وظلمة وشرور، فهل نرضى أن نعفن أرواح بعضنا البعض؟
لعظمة وسحرية الكلمة الطيبة على الإنسان فهو يؤجر ويحاسب عليها، كما علَّمنا رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الكلمة الطيبة صدقة"، كيف لا وهي وصفة ذات حدين وقاية وعلاج لكل العلاقات الإنسانية بل حتى في علاقتنا مع أنفسنا؟!
نعم، ألا تستحق منا أنفسنا دلعاً من الكلمات المعسولة؟ عبارات الثناء والإطراء، كلمات الفخر والتشجيع والتكريم والتقدير؛ لتسمعنا فتعطينا ما جعلناها تؤمن به، من قوة وأمل وثقة، فتوقظ فينا أحلامنا الوردية فنجتهد، فنثابر، فنستمر ليس أي استمرار، بل استمرار بصحة نفسية جيدة، تمنحنا صموداً كورقة خضراء لا تسقط مهما هبت العواصف.
الكلمة الطيبة، كلمة قائمة بذاتها لا تحتاج إلى منطق أو شرح أو تفسير، قولها كافٍ لتُحدث دغدغة محبة وتآلف وهدوء ينشرح له الفؤاد والعقل، فتخدر كل أحاسيس البغض والعداوة، وليتساقط الندى عسلاً وسكراً.
ما أحلانا لو نغمر العالم كله طاقات إيجابية، نصنع المجد بكلماتنا، لو نواسي كل مريض، نحفز كل بائس، نشجع كل صاعد طموح، نحترم ونقدر الكل دون استثناء أو تمييز أو عنصرية.
كفانا استهزاء، كفانا تحقيراً، كفانا جرحاً وتحطيماً لقلوب بعضنا البعض، لنتحد بكلمتنا الطيبة، بحسن لساننا؛ لنحصد به أجمل الصدقات والحسنات، فالكلمة الخبيثة بعيدة كل البعد عن إنسانية الإنسان نفسه.
أطعموا مسامعنا فاكهة طيبة حانية، اجعلونا نحلّق، بكلمات تعبق برائحة الربيع، ربيع يحس خجلاً في الظلام الناعم؛ ليكون كل شيء بخير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.