إن امتيازات الأرستقراطية المصرية المجانية ليست مُنفصلة ولا معزولة عن الجحيم الأرضي الذي يعيشه باقي المصريين، وما يدفع تلك الأرستقراطية للتمسّك بالبقاء في مصر هو نفسه ما يدفع باقي المصريين للهروب منها، فهذا من ذاك وهذه من تلك!
إنه غياب المعيارية والعدالة، فلصوص المكانة والمكاسب لا يمكنهم العيش في بلد تحكمه المعايير وتسوده العدالة، إنهم لصوص يتوارثون المناصب والوظائف ويتواطأون على بيع الوطن بالجملة والتجزئة، ثم يتبجّحون بعد كل هذا بمقولات الوطن الذي نزعوا عنه علامته وصفة وجوده الأولى.. المساواة!
المواطنة في شكلها الأكثر اكتمالاً في الفلسفة السياسية المعاصرة هي الانتماء إلى الوطن، انتماء يتمتع المواطن فيه بالعضوية كاملة العضوية على نحو يتساوى فيه مع الآخرين الذين يعيشون في الوطن نفسه مساواةً كاملةً في الحقوق والواجبات وأمام القانون، دون تمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الفكر أو الموقف المالي أو الانتماء السياسي، ويحترم كل مواطن المواطن الآخر، كما يتسامح الجميع تجاه بعضهم البعض رغم التنوع والاختلاف بينهم.
د. محمد عثمان الخشت – فلسفة المواطنة وأسس بناء الدولة الحديثة
فالوطن عندهم يعني فقط ما يبتلعونه في كروشهم الواسعة، إنه المغنم بلا مغرم، لا عجب أن تتغنى تلك الأرستقراطية المجانية بالوطن وعظمته فيما تطالبنا بالتضحية لأجله، وأن تصدّر لنا شعارات عقيمةً هي أول من لا يؤمن بها، وتبيعنا أغاني من نوع "ما تقولش إيه إدتنا مصر، وقول هندّي إيه لمصر"، كما لو كانت مصر كياناً علوياً ليس له أي تجسّدات واقعية معروفة، وما نعطيه له هو نوع من القرابين تتنزل النار من السماء لتأكلها كما كان يظن الوثنيون في قرابينهم، وكما لو كانت مصر هذه شيئاً آخر غير الشعب!
وهكذا يعظ لصوص تلك الأرستقراطية الفقراء بالصبر على الذل والظلم والجوع، بينما يهجرون هذا الوطن مع أول تهديد لامتيازاتهم، ويطالبونهم بالصبر على الأجور المتدنية والأسعار المتصاعدة، بينما يهرّبون ثرواتهم ويرسلون استثماراتهم للخارج مع أول تعديل ضريبي لا يعجبهم، ويوصونهم بالموت في سبيل وطن لا كرامة لهم فيه ولا حقوق لهم عليه، بينما يستخدمون الواسطة ويدفعون الرشوة ليجنّبوا أبناءهم الخدمة العسكرية، ويبذلون الغالي والنفيس لامتلاك جنسية أخرى لزوم الطوارئ!
وفي حادثة غرقى رشيد طفحت علينا وقاحتهم كمجرور قذر، فضحايا الجحيم المصري في نظر الأرستقراطية المجرمة – المسؤولة عن صنعه والمستفيدة من وجوده – هم أنفسهم المسؤولون عما حلّ بهم، وهم منتحرون بحكم سفير سابق لا نعلم متى تولى منصب الإفتاء، وهم حثالات وهمج كونهم حاولوا سلوك الطريق الوحيد المتاح لهم للخروج من ذلك الجحيم، وهم فضحونا كونهم لم يصبروا على الفقر والذل ليجمّلوا وجه الشمطاء التي أصبحتها مصر على أيدي تلك الأرستقراطية اللصة الفاسدة!
فتجميل وجه الشمطاء مع بقائه على حاله ضروري ليحتفظوا بامتيازاتهم؛ لأن معالجة قبحها علاجاً حقيقياً يعني تحويلها من عزبة الباشوات و"شبه الدولة" باعتراف كبيرهم، إلى وطن للجميع و"دولة مؤسسات" حقيقية، ما يعني زوال تلك الامتيازات غير المُستحقة، وانتهاء التفاوت الشنيع في الدخول والثروات والنفوذ، ذلك التفاوت الذي أكّد الإمام العظيم علي بن أبي طالب أنه من الظلم الأرضي والبغي البشري وليس من قدر الله ولا توزيعه للأرزاق، والذي كشف مصدره قبل الاقتصاديين المُحدثين بكافة مناهجهم العلمية بأكثر من ألف سنة، وقبل أن يثبت توماس بيكيتي العلاقة الشرطية بين الفقر والغني وأن كلاً منهما يأتي في ركاب الآخر بالأساليب الإحصائية الحديثة بما يقرب من ألف وخمسمائة سنة، وذلك بقوله الشهير: "ما رأيت نعمةً موفورةً إلا وإلى جانبها حق مُضيّع"، وقوله الأشهر: "ما مُتّع غني إلا بما جاع به فقير".
لا غرابة إذاً أن نجد في خطابهم الأحمق المُنحط أن المهم هو صورة مصر دولياً ولو تجرّع شعب مصر كؤوس الذل والفاقة، والجوهري هو هيبة الدولة ولو أُهدرت كرامة المواطن يومياً؛ ببساطة لأن استمرار امتيازاتهم مرتبط بألا ينتبه أحد لقبح تلك الشمطاء التي صنعوها، وبقاء مكانتهم مشروط بأن تسبق هيبة شبه الدولة هيبة الشعب الذي يفترض أنها خادمته لا سيدته، باختصار لأن مصر وشبه الدولة من ممتلكات تلك الأرستقراطية، أما الشعب فهو خادمها الذي ليس له عندها سوى الخضوع للذل والقبول بالفتات، فإذا تمرّد أصبح خائناً للوطن كافراً بقدر الدولة، وإذا حاول الهرب غدا عبداً آبقاً يستحق الموت واللعنة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.