لقد شهدت أغلب بلدان العالم العربي خلال السنوات الأخيرة حراكاً شعبياً كبيراً (ربيع عربي) أطاح بزعماء ورؤساء تربَّعوا لسنوات عديدة على رأس هرم السلطة دون حسيب أو رقيب، ضاربين بعرض الحائط المبادئ التي تنادي بها الديمقراطية من استفتاء واحترام الفترة القانونية للرئاسة وغيرها من الحقوق التي لم يكن أحد قادراً على المطالبة بها قبل صرخة البوعزيزي في تونس.
وعلى الرغم من قيام هذه "الثورات"، كما يطلق عليها، فإن هناك تبايناً واضحاً في مدى نجاعتها وقدرتها على إحداث التغيير المطلوب، فنجحت في بعض البلدان بينما فشلت في أخرى، وبين هذا النجاح وذاك تحليلات وتفسيرات متعددة.
فهناك من ربط انتصار الإرادة الشعبية بإصرار وكفاح الشعب نفسه، وهناك مَن ذهب بعيداً لحد اتهام جهات خارجية برغبتها في تصفية حساباتها وتفعيل أجندتها الخاصة المتمثلة في تغيير الخارطة السياسية للعالم العربي.
وبين هذا الطرح وذاك وحتى لا تكون الأحكام سطحية وغير دقيقة، يمكن القول إن أسباب الربيع العربي من الصعب أن تظهر تجلياتها إلا بعد مرور فترة زمنية كافية لإظهار النتائج والأهداف الحقيقية التي قامت من أجلها، لكن في المقابل يمكن أن نتوقع بعض الأسباب التي أدت لفشل هذه الثورات أو نجاحها، حسب كل بلد، والظروف التي أتت في سياقها.
الربيع العربي.. حشد أم جمهور؟
لقد اتخذ الحراك الشعبي أشكالاً متعددة وطرقاً مختلفة كانت المتحكم الأساسي في مدى نجاحه أو فشله، فكان هذا الحراك منظماً في بعض البلدان مثل تونس، بينما كان عكس ذلك في بلدان أخرى كالبحرين وبدرجة أقل في مصر.
ويرتبط هذا أساساً بمدى قوة أو ضعف تنظيم الحراك وتماسكه، فإذا كان هذا التجمع مخططاً له موحَّد الهدف بين كافة مكوناته وله خطة واستراتيجية مسبقة قادرة على رسم خارطة طريق واضحة أثناء كافة مراحله، فمن المرجح أنه سيكون ناجحاً وقادراً على إحداث الأثر وتحقيق أهدافه الموضوعة، كما سيكون من الصعب أن يفكك من قِبَل أي جهة.
وهذا إلى حد كبير ما وقع في تونس التي تعتبر تجربتها من بين أنجح التجارب العربية التي استطاع شعبها وبامتياز قيادة سفينته السياسية إلى بر الأمان، ويمكن وصفها بالتالي على أن حراكها هو حراك "جمهور" منظم.
وفي المقابل لم تتمكن بعض الدول الأخرى من تحقيق أهداف ثوراتها كما لم تستطِع الحفاظ على مكتسباتها الشعبية؛ لأن تجمعها البشري كان أقرب للحشد منه إلى الجمهور، أي أن خروجها للشارع لم يكن مدروساً ومنظماً، كما أن مكونات الحشد لم يكن لها هدف موحد أو رؤية استراتيجية تقودها وتكون لها بمثابة الإشارة أمام ضعف إنارة المشهد السياسي، وهذا قريب نوعاً ما من النموذج المصري؛ إذ كانت كل فئة تنادي بأحقيتها في تطبيق مبادئها على أرض الواقع دون مراعاة المكونات الأخرى للمجتمع، ولعل هذا كان عاملاً مؤثراً في تعثر نجاح الثورة،
بالإضافة لأسباب أخرى يعرفها الجميع، وهو أيضاً شبيه ما حدث في البحرين؛ إذ لم يتمكن حراك 14 فبراير/شباط من تحقيق أي مكتسبات؛ لأنه لم يكن يشمل كافة فئات المجتمع البحريني ومكوناته؛ بل وجهت إليه اتهامات كون محركه الأساسي ليس الشعب نفسه بقدر ما هي تدخلات لجهات خارجية استغلت الوضع من أجل خدمة أجندتها السياسية في المنطقة، بالإضافة إلى اتسامه بالعنف والتخريب، كما أن غياب الهوية كان أكبر سمة طغت على هذا الحراك غير المنظم.
ولعل هذا التشخيص بين الجمهور والحشد هو أقرب لما تناوله "سيغل" في كتاباته حول سيكولوجية الحشود، والذي وصف فيه الأشخاص المتواجدين في مثل هذا التجمع البشري غير المنظم بأنهم يخضعون لسلطة الـ"نحن" التي تسلبهم هوياتهم وتزرع فيهم نوعاً من التعصب والعدائية، وقد عبَّر عن هذا بـ"القوة الخفية" التي تسيّر هذه الحشود، والتي يعود فيها الشخص حسب رأي هيغل لحالته الطبيعية عندما يصبح ميالاً للعنف والتخريب وإقصاء المخالف لآرائه وتوجهاته.
ولعل هذا الوصف كان أبرز ما ميز أغلب الحراكات الشعبية في العالم العربي؛ حيث لم يراعَ في هذه الأخيرة عنصر التنظيم والتخطيط والتعددية العرقية والدينية وغيرها من العوامل الحاسمة في إحداث التغيير الذي انتظره المواطن لسنوات عديدة في عالمنا العربي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.