في صيف 2012 وقعت لي حادثة سير بالقرب من مدينة تيزنيت (جنوب المغرب)، وحين كنت أتلقى الإسعافات بمستشفى مدينة ماسة، كانت هناك سيدة كبيرة في السن تنتظر قدوم الطبيب الذي تأخر بشكل كبير، العجوز المريضة لم تصمت؛ إذ كانت تحتج بكامل قوتها وترفع صوتها لتعبر عن رفضها لهذا الوضع، وكانت تنهي كل جملة احتجاجية بالقول: "الله ينصر سيدنا".
وحين كنت أسمع كلماتها الاحتجاجية كنت أفرح؛ لأنها لم تسكت على مَن ضيَّع حقها، وكنت أحزن في نفس الآن؛ لأنه لا أحد اهتم بها أو اكترث لشكواها، وكنت أغضب أيضا؛ لأني لم أفهم سبب دعائها للملك، فالموقف موقف احتجاج على الدولة وأجهزتها، التي يرأسها الملك، وليست لحظة ثناء ومدح أو دعاء.
مرت مدة إلى أن استوعبت أن تلك السيدة العجوز ليست حالة خاصة أو فريدة بالمغرب، بل هي واحدة من عدد كبير من المغاربة، ممن وقع عليهم ظلم أو ضيم الإدارة، فضاع لهم حق أو سُلب آخر، والذين حين يقولون "الله ينصر سيدنا"، إنما يؤكدون تشبثهم بالمشروعية وبالمقدسات السياسية للبلاد، لكنهم، في نفس الآن، يرفعون صوت الاحتجاج للتعبير عن رغبتهم في تغيير الأوضاع نحو الأحسن، نحو حالة من المنطق والعقلانية في تعامل الإدارة معهم، وشكل من المعقول في التفاعل مع مطالبهم واحتياجاتهم.
الواقع أن دعاء هذه الفئة هو الأمل الباقي في مشهد سياسي ينذر بأن الأبواب مغلقة، أو على الأقل يحاول البعض إغلاقها جميعاً، هو الأمل الذي يدفعهم لإقناع أنفسهم أن هناك جهة ما في الدولة تفكر فيهم وتهتم بأوجاعهم، وأنها ستستجيب لهم يوماً ما.
الخوف ليس من تأخر الاستجابة، بل الخوف الرئيسي هو من تبخر الأمل أمام اتساع دائرة النكسات والخيبات.
هذه الفئة إن تم وأد الأمل الذي تحمل، فهي حتماً ستكون بين حالين؛ إما أن تنضاف لفئة تقول إنه لا تغيير إلا باقتلاع الجذور مهما كان الثمن، ولأن ليس لها ما تخسر، فلن يضرها في شيء أن تقول "عليّ وعلى أعدائي"، أو أن تغذي فئة أخرى سكنها الإحباط فانزوت إلى حال سبيلها، بدون موقف ولا رأي ولا تفاعل، هي أقرب لـ"ساكن في بلاد" لا "مواطن في دولة"، واتساع دائرة هذه الفئة لن يفضي إلا للانهيار الحضاري للمجتمع، فأنى للأخير أن يقوم ويرتقي بدون حركة وتفاعل وإبداع ومشاركة وحرقة تغذي المرء وتدفعه للمزيد من التحسين والتجويد والتقدم.
الشعب المغربي في حراك 2011 كان ذكياً جداً؛ إذ خرج الشباب إلى الشارع للمطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد وليس إسقاط النظام، يحدوهم الأمل في أن تستجيب الدولة وتلتقط الإشارة، بضخ المزيد من الدماء في شريان الانتقال الديمقراطي وفي مساعي التوزيع العادل لثروات البلاد.
هذا الشعب نفسه لن يجد حرجاً في المستقبل، إن هو فقد الأمل أو قتل لديه كل إمكان للتغيير المتدرج أو السلمي، في أن يرفع مطالب ثورية أو للتغيير الجذري؛ لأنها حينها لن تكون نهاية الأمل، بل بداية أمل جديد، لكن وللأسف سيصل لما يريد بعد ألم طويل، فهل من عاقل يلتقط الإشارات الشعبية ويكفي المواطن مؤونة التفكير في حلول تفتح باب المجهول أمام البلاد؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.