"هذا اليوم مختلف".. تلك الكلمات لا أسعد بها كثيراً، وأنا أُسطّرها في وقت متأخر من الليل، بعد يوم مليء بالأحداث والأخبار والساعات التي كادت لا تنقضي.
حينما كنت ابنة الخامسة عشرة، لم أكن أبالي كيف يجب أن يكون ربيع عمري، زهرة شبابي، أيام عزيمتي وطاقتي وحماسي، ظننت أنني أحسن الصنع وأنا أترك كل شيء على عاتق المستقبل المجهول الملامح والعلامات.
ظننت أنني ذكية بقدر كافٍ حتى أوقن أن لكل شيء أوانَه، وأوان سعيي وتعميري للأرض آتٍ فيما يدعونه ربيع العمر، كان بمخيلتي الكثير من الأشياء التي أود فعلها، حضور دورة ما أو إتقان لغة جديدة، والسعي بحثاً في كل صوب حول ذاتي ونفسي التي طالما حلمت من أجلها أن أكبر، وأن أصبح مثل الفتيات اللواتي يمتزجن بداخل العالم والعلم كأنهن خُلق للسير بلا قيود للبحث حول اللانهائية وما بعدها، أو كأمشاج انخرطت دون إرادتها نحو ما تحبه وتعشقه روحها.
لكن اندلعت الحرائق وقامت القيامة في بلادنا العربية، وتغيَّر العالم رأساً على عقب؛ بل لم يعد أي شيء كما كان.. غدا كل العالم حطاماً، أصبحت الجثث الملقاة في كل ناحية تشكو باريها مَن يواريها ويكفنها ويصلي عليها، مَن ذا الذي سيعد عدته ويبدأ في إحصاء كل هؤلاء القتلى من أطفال ونساء ورجال؟!
خريف وطننا العربي ليس بخريف؛ بل هو شتاء قارس مليء بالعواصف والبرق والرعد، مليء بالسيول والفيضانات والدمار، مليء بكل شيء سيئ، مليء بالأشلاء والضمائر المعدومة والصراعات والتكالبات نحو العروش على حساب الضعفاء الفقراء الذين يجوسون وهم يبتغون قوت يومهم ليس أكثر.
أنا لن أنسى ما حييت ذلك اليوم الذي مكثت فيه حتى بكرة الصباح أنظر إلى صور الشهداء ومقاطع دامية من المجازر التي أقامها النظام العسكري الفاشي في بلادنا، ظننت أنها النهاية، ولا يوجد أشد وأقسى من هذه المناظر ومن حصيلة ٢٠٠ شهيد في عدد صغير من الساعات المتأخرة من الليل، لا يوجد أقسى من رائحة الدخان التي تحبس أنفاسي، وتكتم صوتي بلجام من نار يحرق حناجري، فلا أهتف ولا أثور، وألوذ هاربة بالفرار.
اليوم في أبريل/نيسان تقوم قيامة الدنيا في سوريا كأنه لا أحد يسمعهم، ولا أحد يعي لهم ولا يكترث لأمرهم، كأننا لسنا أمة عربية، دولة عربية تسعى لتدمير دولة عربية أخرى، تسعى لمزيد من الدماء والقتل والدمار.
اليوم أدركنا أننا خذلنا من بُعث فينا، حتى إننا نسينا لمَ بُعث خير خلق الله، لمَ عُذب بلال بالسوط وتهتك جسده من شدة الجلد؟ ولمَ تحمّل الصحابة كل هذا الأذى؟ ولماذا ندفع عمرنا ثمناً لأحلامنا ورغباتنا وحريتنا؟
ماذا عساهم أن يفعلوا، أهل العروبة والنشوة، ومن تبقى لهم أشلاء ضمير؟! ماذا عساهم سوى بعض من أبيات الشعر والكلمات والألحان وصرف مبالغ طائلة على إقامة أوبريت عربي يتوحد فيه جميع المطربين من مختلف الديانات والاسم عربي؛ ليثيروا في النفس حب العروبة وحنين التراب وأصل الدم، حتى إذا ما انقضت انقضى معها كل شعور.
نحن مشوهون، غدونا بلا شعور الوطن.. كأن شتاء وطننا العربي جاء ودمر تلك الخيمة الصغيرة التي كانت تؤوينا في وحدتنا وتجمع شملنا، غدونا طامحين إلى الانتقال إلى بلدة أخرى، إلى حياة أخرى نكمل فيها ما بقي من عمرنا، كأننا سنهنأ بالحياة حينما نفارق تراب الوطن الذي سعى دائماً إلى إيلام أرواحنا.
ربيع عمري لن يزهر أبداً ما حييت، لقد هرمنا قبل أن تبيض خصلات شعرنا، قبل أن تمتلئ وجوهنا بالتجاعيد.
شتاء وطني الذي جاء وأنا في مقتبل العمر، أثار بداخلي الكثير من المشاعر المتناقضة، حتى إذا أوشكتُ بلوغ خريف الحادى والعشرين، لم أجد ما أفقده من روحي.
لا أعلم متى سنرى تدوينات بعناوين مبهجة حد البكاء تروي ظمأ السنين، وربيعنا الذي تحول إلى خريف وهو كل يوم يملأ أرضنا بدماء الصغار!
لا أعلم متى ستزهر الأشجار الهرمة ومتى ستنجلي القيود وتشرق تلك الشمس الغائبة منذ عدة أعوام، لا أعلم متى سنرى "انتصرت سوريا"، ومتى ستقوم تلك الأنقاض من أراضي الشام ويسعى من تبقى من أهلها في إعمارها وجمع أشلاء ذويهم؟
لا أعلم هل ستُضاء منارة الشام مرة أخرى كما عهدناها في تاريخها القديم أم أنها كانت المرة الأخيرة؟!
لا أعلم هل سنغدو بخير ويهلك الظالمون ونصبح أوطاناً عربية تحكمها الثورات الشعبية وأصوات المظلومين والفقراء أم أن هذه هي نهاية العالم وقيامة الدنيا كما عهدنا قولها؟!
كل ما ينقش على الصخر -كما تعرف- لا تذروه رياح مهما قوت، ولا يمحوه الموج مهما علا عليه.. هنا ننقش على الصخر، هنا نتمنى أن يغدو وطننا العربي في حالٍ أفضل، هنا نتمنى أن يغدو ربيع عمرنا ذا أثر وشامة وتحوّل تاريخاً أُهلكت فيه قوتنا وروحنا، وأُريقت من أجله دماؤنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.