يتساءل كثير من الناس وهم على حق، عن ماذا سيحدث في العراق بعد القضاء على التنظيم الإرهابي المسمى بالدولة "اللاإسلامية" (داعش)؟ ولكنني أجد أن في هذا السؤال بعض القصور؛ إذ إن الوضع الحالي ومجريات الأحداث السريعة في المنطقة، وفي العراق خاصة، يدفعنا إلى سؤال أكثر عمقاً وواقعية هو ما العمل بعد فشل الأحزاب والكتل الطائفية الفاسدة من كلا الوجهين في إدارة الحكم في العراق؟
ليس هناك من داع لتعداد نقاط الفشل والفساد الإداري والسياسي، ونهب الدولة، وتوقف الصناعة والزراعة والخدمات العامة بشكل شبه كامل، وعلى مدى السنوات الأربع عشرة العجاف اللاحقة لاحتلال العراق، حتى أصبح دولة فاشلة بكل معنى الكلمة؛ لأن هذا قد أصبح من البديهيات التي يعرفها القاصي والداني، والفضيحة أصبحت تزكم الأنوف، ورغم ذلك فإننا نرى الأحزاب والكتل السياسية تحاول إعادة إنتاج ذاتها عن طريق تغيير جلدها كالحية، لعلها تستمر بالحكم فترة أطول، ولذلك نرى التحالف الوطني قد طرح موضوع المصالحة الذي استهلك نفسه من كثرة الحديث عنه، ثم التسوية التاريخية الفاشلة، كما أقدم اتحاد القوى، الطرف الثاني من المعادلة الطائفية الحاكمة في العراق، على عقد مؤتمر في تركيا لترقيع ثيابهم الرثة من كثرة الفساد، والبكاء بدموع التماسيح على مدنهم المهدمة والمهجرة، كل ذلك من أجل البقاء في السلطة، وهم يعلمون جيداً أن ذلك قد أصبح من المستحيلات، وليس هنالك من شك في إزاحتهم نهائياً من على المشهد السياسي العراقي، لا بل إنهم معرضون جميعاً للمساءلة القانونية عن فسادهم، وخيانتهم للوطن.
ومع ذلك فإن محاولاتهم ما زالت مستمرة، وأخذت تنحو منحى بالغ الخطورة كلما اشتد الضغط عليهم، وإن ما يتوجب العلم به في هذا المجال هو أن هذه الأحزاب والكتل الفاسدة قد انقسمت إلى قسمين: الأول يرى عدم وجود موقع له في المستقبل المنظور، وهو يحاول ترسيخ الدولة العميقة وينتهز الفرصة المواتية للانقضاض على الحكومة؛ ليقطع الطريق على المشاريع المطروحة الهادفة إلى استبعاده، وهذا الجناح يديره رئيس الوزراء السابق، وبعض قيادات الحشد الشعبي وليس كلها، وهو يعول في هذا المسعى على مساندة إيران له، والجناح الثاني يحاول نزع عباءته الإسلامية أو المذهبية؛ ليلبس اللباس المدني الديمقراطي، ويطلع علينا بمشاريع إصلاحية تارة، والدعوة لحكومة مدنية تارة أخرى محاولة منه للبقاء في السلطة فترة أطول.
ويقف السيد العبادي، رئيس الوزراء الحالي، موقف المتفرج، إلا أن زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة أعطته دفعة إلى الأمام، ولا نعلم هل هو قادر على تنفيذ كل الإملاءات الأميركية عليه، وخصوصاً فيما يتعلق بفك الاشتباك مع الجارة إيران، والتخلص من الميليشيات الحزبية، وربما محاسبة رفاقه الفاسدين؛ لكون المبالغ المسروقة من ميزانية الدولة لا يمكن السكوت عليها. وأميركا ترامب ليست على استعداد لصرف سنت واحد لإعادة إعمار المناطق المحررة، ناهيك عن المناطق المتخلفة التي لم تمتد يد الإصلاح إليها رغم الصراخ والتهريج بذلك من قِبل أطراف متعددة.
إن الجناح المتشدد للدولة العميقة سيحاول القيام بعملية استباقية للوثوب إلى السلطة، ولكن هذا المشروع سوف لن ينجح؛ حيث إنه يعول على مساعدة إيران له، وإيران كما عرفناها سابقاً ونعرفها حالياً
برغماتية تحاول الحفاظ على مصالحها، ولا تغامر من أجل أي كان، وإذا كان الإمام الخميني قد تجرع السم وأوقف الحرب العراقية – الإيرانية في زمن صدام، فإن السيد خامنئي سوف لن يصطدم مع الولايات المتحدة، وهو يعرف الثمن الباهظ لهذا الموقف، ولذلك فإن إيران ستتجرع السم مرة ثانية وتنسحب إلى حدودها المرسومة في زمن الشاه، عسى أن تنصرف هذه المرة لتحقيق الرفاه الاقتصادي للشعب الإيراني.
وإزاء كل هذه المشاهد والمؤامرات يثور سؤال في ما هية دور المثقف العراقي، يؤسفني أن أقول إن بعض المثقفين قد ركبوا الموجة وأخذوا يتحدثون باليسارية وهم مشبعون بالمفاهيم الطائفية التي انهالت عليهم فجأة، والبعض الآخر يتحدث عن العلمانية وهو طائفي حتى النخاع، ومع ذلك فإننا نشهد أن كثيراً من الناس أخذوا يحسنون من خطابهم ويبتعدون عن التنظيرات الوهمية، إن هذه الشريحة يمكن إصلاحها إذا ما وجدت تنظيماً علمانياً ليبرالياً واضح المعالم محدد المناهج والأهداف
إننا بقولنا هذا لا نتوقع حصول انقلاب فجائي لتصحيح الأوضاع، بل إن هناك متسعا من الوقت؛ لأن الطبخ على نار هادئة يحقق النتائج المرجوة على الأمد المتوسط والطويل، وإن حرق المراحل لن يحقق لنا الأهداف المطلوبة، خصوصاً أن هناك كثيراً من الناس يقفون موقفاً محايداً؛ إما لعجزهم عن أي فعل إيجابي أو لأنهم لا يدركون الأهداف المطلوب تحقيقها لانتشالهم من واقعهم المتخلف المؤلم والدموي أيضاً.
إن على النخب المتعلمة والمثقفة والواعية من جميع الأديان والمذاهب والإثنيات العمل ومنذ الآن على توفير الأجواء اللازمة للتخلص من الأحزاب الفاسدة والتحالفات المشبوهة التي سادت العملية السياسية، وفضحها جهاراً نهاراً لانتشال هذا الوطن الذي سقط صريعاً بأنياب التخلف وعباءات الدين وعمائم المذهبية المقيتة التي سالت دماء شعبنا من أجل حماية رموزها التافهة التي لم تحقق لنا سوى الفقر والدمار، وتسعى لتبديد ما تبقى من حياتنا وحياة أبنائنا.
إن الواجب يحتم علينا جميعاً التوحد وتقديم التنازلات لتحقيق الأهداف السامية التي يستحقها الوطن في العدالة والعيش بأمان وسلام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.