إصرار الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب على أن تتحمل المكسيك تكاليف الجدار الفاصل الذي يريد بناءه على طول الحدود المكسيكية – الأميركية لمنع تدفق المهاجرين، هو سلوك سياسي يذكّرنا في منطِقه الاستئصالي ورمزيته الفاشية بممارسات داعش التي تجبر ضحاياها المخالفين أو المختلفين على حفر قبورهم بأيديهم قبل إعدامهم؛ بمعنى أن يكون الآخر في نظري شريراً وبلا قيمة بحيث لا يستحق حتى أن أبذل جهداً أو تكلفة في إبادته أو إقصائه والتخلّص منه، بل أجعله هو من يتحمّل كافة تكاليف الاستبعاد والعزل والاجتثاث بحق ذاته،
وهو من يهين نفسه بيديه، أي أن الجلّاد في سلوكه هذا لا يكتفي باضطهاد الضحية وإنما يجبرها على تصرفات تجعلها شريكة في الاضطهاد الواقع عليها أو تعبّر عن الرضا أو القبول به، وذلك إمعاناً في إذلال الضحية واستباحتها معنوياً ونفسياً وحسياً وتذويبها في ذات الجلّاد بحيث تتماهى معه وتتبنى أفكاره.
ويعكس هذا التطرف في القسوة والروح العدوانية رغبة الوعي الفاشي في الذهاب إلى أبعد مدى في تأكيد الذات، وإلغاء الآخر، عبر المبالغة في التوحّش إلى حد ابتكار أساليب جديدة فيه.
ويندرج سلوك الجلّاد الفاشي هنا تجاه ضحاياه في إطار مفهوم "السادية"، وهي اضطراب نفسي يتجسّد في الاستمتاع بإيقاع الألم على الطرف الآخر؛ أي التلذذ بممارسة التعذيب.
بينما يمكن وضع سلوك الضحية، حين تستجيب لظروف الاضطهاد وإكراهات الجلّاد وثقافة المظلومية، ضمن مفهوم "المازوخية"، وهي اضطراب نفسي يتجسّد في التلذذ بتلقي الألم؛ أي الاستمتاع بالوقوع تحت الاضطهاد.
وتُحيلنا هذه الظاهرة النفسية السلوكية، مزدوجة الطابع بين الجلّاد والضحية، إلى مشهد ظهور مخطوفة عراقية بعد إطلاق سراحها من الخطف وهي تتحدث عن "المعاملة الجيدة" التي تلقتها من الجماعة المسلحة التي اختطفتها، أو تقديم سياسيين الشكر لميليشيات دينية مسلحة على وساطتها في إطلاق سراح مواطنين اختطفتهم إحدى تلك الميليشيات.
مثل هذه المشاهد لا تعكس فقط سلوكاً فردياً لدى ضحايا الفاشية بل تؤشر لظاهرة عامة سياسية واجتماعية وثقافية تتجسّد في الخضوع للفاشية كأمر واقع أو الذوبان فيها والإذعان لاستلاباتها النفسية والسياسية والذهنية.
الفاشية سواء صدرت من الأنظمة أو التنظيمات، إذا لم تلقَ معارضة كابحة فإنها تتفاقم مثل كرة الثلج المتدحرجة، والمشكلة أن المعارضة الصريحة باهظة الثمن وقد تكون مميتة، فيصبح التعايش مع الفاشية والتماهي معها والاستسلام لمنطقها ووعيها أمراً مفروضاً وقسرياً وربما خياراً عقلانياً وواقعياً طبيعياً ولا مفرّ منه.
وتُعرَّف الفاشية بأنها مذهب سياسي واتجاه فكري وسلوكي يقوم على الاستبداد والأحادية والقمع، والتطرف والتعصب القومي والعنصري، وإعلاء شأن العنف والغرائزية والسلطوية، والأصولية الدينية والطبقية العرقية، وكلها سمات مشتركة بين الشعبويات الأصولية؛ الترامبوية المسيحية والطائفية الإسلامية. فالجماعات الراديكالية والطائفية؛ السياسية منها والقتالية، وإنْ بدت أحزاباً أو تنظيمات مستقلة بذاتها ومعزولة ولها نصوصها وضوابطها السلوكية الخاصة إلا أنها تعكس في فكرها وخطابها وعياً أصولياً يقوم على تمجيد الذات الدينية والأصل العقائدي ورفض التنوع، وتجسّد حساً شعبوياً يقدّس العواطف والغرائز الطائفية والثورية.
ومن مبادئ الفاشية أن الأقوى له الحق في إلغاء الأضعف، فهي وعي عصبوي فوقي؛ إذ يسعى الفاشي ليكون قوياً وعظيماً على حساب الآخرين، ويهدف السلوك الفاشي القمعي إلى بث رسائل رمزية تعكس الهيمنة والتسلّط والمبالغة في إهانة المجتمع والتنكيل بالمواطنين، فعلى سبيل المثال يبدو ما تمارسه أنظمة وتنظيمات من الإخفاء القسري للأفراد ثم إطلاق سراحهم نمطاً من القمع الهادف للإخضاع والتنكيل والاستئصال الرمزي والاعتباري للضحايا عبر تذويبهم في الذات الفاشية من خلال تعريضهم للإهانة والترويع ثم جعلهم يشكرون الجلّاد.
أن أضطهدك ثم أضطرك للتعبير عن امتنانك لي؛ تلك هي رسالة القمع الفاشي التي يبثها بوعي أو بدون وعي، وهي رسالة تنتمي إلى منطق داعش التي قطعت يد شخص في الموصل بتهمة السرقة ثم صوّرته وهو يشكر الدواعش؛ لأنهم طهّروه من الخطيئة.
وبمحاكاةٍ لهذا المنطق التنكيلي تتحرك إدارة ترامب الشعبوية التي أصدرت قراراً بحظر دخول الولايات المتحدة على المسلمين من سبع دول وهي تعلم تماماً أن موظفين أميركيين "مسلمين" في دوائر الهجرة والشرطة سيكونون ملزَمين بتنفيذ هذه القرارات العنصرية والاضطهادية والتعسّفية ضد أبناء جلدتهم.
ما تفرزه الشعبويات المتطرفة الراهنة بأشكالها؛ الغربية والشرقية، الترامبوية واليمينية والداعشية والديكتاتورية والفصائلية والميليشياوية، من مخرجات نفسية وثقافية واجتماعية ونماذج ذهنية واتجاهات تفكير وشبكات معانٍ ورموز ونظم إدراك ومذاهب سلوكية، مستفيدةً من هيمنة أشكال الوعي الديني الأصولي في أوساط اجتماعية، وسواء أكان ذلك عن قصدٍ أو بدونه، وعن فعلٍ أو انفعال، وعبر سياسات وممارسات عنف مادي أو لفظي أو رمزي؛ إنما ينتمي إلى منطق فاشي يعكس منتهى القسوة والتطرف في الإيذاء والتنكيل بالآخر؛ أن يُلزم الجلّادُ الضحية بأن تمارس الاضطهاد ضد ذاتها، وأن يُمعن الجلّاد في ممارسة أبشع أنواع الاستلاب ضد ضحاياه فيجعلهم شركاء له في إذلال أنفسهم.
وهذه ظاهرة سياسية ونفسية يفسّرها ربما ما يصطلح عليه في علم النفس بـ"متلازمة ستوكهولم"، وهي حالة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوّه أو مَن أساء إليه، أو تُظهِر الضحية بعض علامات الولاء للجلّاد مثل أن يتعاطف المخطوف مع الخاطف.
وربما نجد مؤشرات هذه الظاهرة في سلوك مسلمين مؤيدين لقرارات ترامب العنصرية ضد حمَلة هويتهم الدينية والثقافية، والتعاطف الذي يبديه مسلمون مُستلَبون فكرياً ونفسياً للتطرف والأصولية مع تنظيم داعش الإرهابي على الرغم من كل ما تسبب به من آلام ومآسٍ لمجتمعاتهم، وسلوك أفراد يتضامنون أو يتماهون مع أنظمة استبدادية أو تنظيمات طائفية على الرغم مما تفرزه سياساتها من انتهاكات ضد مجتمعاتهم أو هوياتهم.
ويمكن تفسير هذه الاتجاهات السلوكية بما تذهب إليه الأدبيات النفسية من أن متلازمة ستوكهولم قد تعكس استجابة الفرد للصدمة وتحوّله لـ"ضحية". فالتضامن مع المعتدي هو إحدى الوسائل للدفاع عن الذات؛ إذ تلجأ الضحية للإيمان بنفس أفكار وقيم المعتدي كي تتخلص من الخوف والشعور بأن أفكاره تشكّل تهديداً لها.
وربما يمكن الاستعانة بهذه التأويلات النفسية في مقاربة التعاطف أو التأييد الذي يبديه أفراد تجاه أنظمة سياسية أو تنظيمات أيديولوجية على الرغم مما تمارسه من اضطهاد ضد انتماءاتهم أو مكوناتهم الاجتماعية أو مجتمعاتهم؛ حيث يرى المتخصصون أن الضغط النفسي الكبير الواقع على الضحية يدفعها للجوء إلى آلية نفسية دفاعية غير واعية تسمى "التماهي أو التوحّد مع المعتدي" أي أن يحب الفرد مَن يضطهده ويتحالف معه ويحرص على إرضائه، وهو سلوك لا يمكن تصنيفه على أنه خاطئ أو سيّئ بصور حاسمة،
بل على العكس قد يعبّر عن العقلانية الفطرية إذ يطلق عليه "متلازمة الحس السليم" باعتباره "محاولة للبقاء" وحماية الذات، وقد يحقق هذه الحماية جزئياً أو مؤقتاً لكنه لا يحل الأزمة الكليّة المشتركة بين الضحية والجلّاد، ولا يكبح جماح المعتدي بل قد يدفعه للتمادي؛ لا سيّما عند تطبيقه على المستوى الجمعي وفي الصراعات السياسية والعقائدية المحتدمة بين الجماعات والطوائف حيث تتناقض وتتضارب المصالح بشدة وتتصاعد الكراهيات والإكراهات وتتصادم الأجندات؛ إذ تكمن الخطورة هنا في كون تماهي الطرف المغلوب مع الطرف المعتدي المتغلّب قد يكون الخيار الوحيد المتاح؛ لكنّه في ظل الاضطراب السياسي قد يعني إضفاء شرعية على السلوك العدواني وتكريسه.
ويبدو أن لظاهرة الاضطهاد الفاشي المسرف في التنكيل بالضحايا دوافع ومحركات دينية كامنة أعمق حتى من الشعارات الأصولية المرفوعة؛ فالجلّاد هنا يضع نفسه في موضع "الإله" أو الوكيل عنه، ويصمُ الآخر بالشيطانية أو يسلب عنه إنسانيته ويحوّله إلى "شيء" ملوث أو "خطيئة".
يعتبر الجلّاد الفاشي نفسه أفضل مَن يتمثّل حقائق وتعاليم الدين ويدافع عنها، فيمحو الحدود بين ذاته والذات الإلهية ويتقمّص في سلوكه شخصية الربّ فتكون إرادته هي إرادة الإله وتصير رغباته عاكسةً لمشيئة السلطة السماوية، فيتوقع على هذا الأساس أن تكون خياراته مقبولة بدون اعتراض لدى ضحاياه مهما كانت قاسية عليهم؛ لأنها تعبّر عن الإرادة الإلهية التي تعرف مصالحهم ولها الحق في عقابهم على ذنوبهم بشدة.
والفاشية الشعبوية سواء كانت مسيحية ترامبوية أو إسلامية؛ داعشية أو أيديولوجية أو طائفية، وسلطوية مؤسسية أو حزبية جماعاتية، إنما تعكس فكراً عقائدياً أصولياً يريد إعادة تشكيل العالم بطريقة تحاكي سردياته التي تقوم على تبجيل الذات "النقيّة" والأصول الدينية "العليّة".
فالأصولية الشعبوية تقوم على فكرة العودة إلى المنابع والجذور الدينية والمذهبية والإثنية؛ حيث يضع الجلّاد الشعبوي "ذاته" محل الإله، ويضع "الآخر" محل الشيطان، وليس في موقف الرب من إبليس كما هو معلوم بالمنطق الديني والميثولوجي إلا الطرد والنبذ والرجم وتحريم التسامح والرحمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.