مَن يتابع السياسة المغربية عن بُعد يسمع عن كثير من الشعارات ترفع، من بينها الخصوصية المغربية والديمقراطية المغربية، والمذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، ومن يتابعها عن قرب يعلم أنه لا شيء من هذا له وجود خارجي، ومن يدقق النظر يعلم أنه لو أتى الإمام مالك والإمام أبو حسن الأشعري لما استطاعا أن يريا معلماً واحداً من معالم مذهبيهما، فكل شيء في بلادنا العزيزة يوحي بأننا ما بعد الدولة التي يحتل فيها التشريع الإسلامي مكانة مرموقة، نحن لجأنا للعقيدة الأميركية والفقه الفرنسي.
كلامي هنا عن المؤسسات وليس الشعب، فالشعب المغربي مؤمن، ولا نقاش في هذا، تقابله مؤسسات الدولة العلمانية، ويكفي أن ترى الإعلام وما يبثه صباح مساء، ويكفي أن تحلل المناهج الدراسية للتعليم؛ لترى كيف يمرر الفقه الفرنسي للشباب المغربي والعقيدة الأميركية، لقد صدر مؤخراً قرار بمراجعة مناهج التربية الدينية، فكل سياسات الدولة توحي بأننا أمام مشروع علمنة المجتمع المغربي.
ولما كان الأمر هكذا، ماذا تفعل الدولة بحزب ذي خلفية إسلامية؟ يذهب معظم الناخبين لإعطائه أصواتهم بناء على هذا، فبمجرد وجوده في الساحة يشكل عقبة أمام مشروع الدولة، وإن كانت عقبة وجودية فقط، وليس من حيث الفاعلية أو أي شيء آخر، بصريح العبارة ليست القضية قضية فشل بنكيران في تشكيل الحكومة على قدر ما هي قضية رفض من قِبل الدولة لأي حزب ذي خلفية إسلامية.
قد يقول قائل إننا نرى أحزاباً وجماعات ذات مشروع شبه إسلامي في الساحة السياسية، نقول له ذلك لأن قطاعاً كبيراً من الشعب يريد هذه الأحزاب والجماعات، وما سينتج إذا تم إقصاؤها عن العمل السياسي في هذه الظروف أكبر ضرراً من الإبقاء عليها، وإن كان الطريق نحو حالها في حيز الممكن إن لم تكُن ضرورة. ومن يرى كيف تم تعجيز رئيس الحكومة السابق في تشكيل الحكومة الجديدة، رغم التنازلات الجوهرية التي قدمها، ورغم أنه مرر للدولة قرارات اقتصادية لم تستطِع الحكومات التي كانت قبله مجتمعة تمريرها، يحصل له يقين أننا أمام مشروع علمنة المجتمع المغربي.
ويمكننا أن ندلل على أن الدولة المغربية لا تريد الإسلاميين في العمل السياسي بوثائق ويكيليكس التي جاء فيها أن الدولة أنشأت حزب الأصالة والمعاصرة وتدعمه؛ لكي لا يسيطر حزب العدالة والتنمية على المدن الكبيرة، وما جاء في كتاب إسلام السوق لصاحبه باتريك هايني من أنه كانت الدولة المغربية تتجه نحو حال حزب العدالة والتنمية لولا تدخل السفير الأميركي الذي لولاه لكان الحزب الآن في خبر كان، وهذا ما وعاه الحزب جيداً، فسعى نحو جلب رضا القصر مع سطوع شمس الربيع العربي، فقدَّم نفسه على أنه عنصر الاستقرار في الوطن.
يجب أن نعلم أنه بمجرد وجود حزب العدالة والتنمية في الساحة السياسية، أو أي كيان شبيه، فهذا يعد عقبة في وجه مشروع الدولة المغربية الذي هو ذو طابع علماني بالمطلق، ولكي ندلل على هذا انظر لحفاوة الدولة المغربية برموز التيار العلماني من مختلف أطيافهم، في مقابل جفاء رموز التيارات المخالفة في، وقت يدفع فيه المال الكثير مقابل أن تأتي راقصة، نجد مفكرين مغاربة ممن لا ينتمون إلى هذا المشروع لا يسمع لهم صوت.
ولا يغرنك من الشيوخ والوعاظ الموجودين في الساحة المغربية وهم أربعة تحديداً، واحد منهم تم تسريب وثيقة للإعلام تفيد بأنه متعاون مع المخابرات المغربية، وهو الذي منذ خروجه من السجن بعفو ملكي وهو لا يجد موضوعاً للحديث فيه غير الجنس وفضائله، فهم بهذه الطريقة التي يدعون بها الناس إلى الله يخدمون المشروع العلماني للدولة أكثر مما يخدمون أي مشروع آخر.
فعندما يرى الناس أحد هؤلاء الوعاظ وكل كلامه عن الجنس، والآخر كل كلامه يفتقد للوقار، رغم أنه شيخ كبير ويفتقر إلى الثقافة الدينية والعمق، وعندما يظهر يكون ظهوره في حفل زفاف أو حفل ختان، تشعر العامة بدونية المشروع والمحسوبين عليه في مقابل ما يبدو من جبروت لمشروع الدولة.
فبدون رجال الدين هؤلاء لن تكتمل المسرحية المنوط إخراجها للجماهير، وهي مسرحية العصور الوسطى، حيث يكون رجال الدين متخلفين مقابل أناس مستنيرين بالمنطق، والعمل الرسالي مقابل الخرافة والدجل، إلا أنه مع الأسف قد تحقق الشرط الأول من المسرحية وهو وجود رجال دين متخلفين ولم يتحقق الشرط الثاني.
فكل هؤلاء الشيوخ الأربعة يلعبون دوراً في غاية الخطورة لم ينتبه له كثير من العقلاء في الوطن، فالقصد منهم هو نزع سلطة الدين من نفوس العامة عبر تقديم مشروع متهافت، وغني عن البيان أن المستفيد هم أصحاب المشروع الآخر ولذلك يمكننا القول إن القضية ليست أزمة تشكيل حكومة، بل هي أعمق، هي صراع قيم ومشاريع، فلن ترضى الدولة العميقة عن أي حزب إن لم يكن أميركي العقيدة فرنسي المذهب، وقل ذلك أيضاً عن أي مفكر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.