يبدو أن جمعيات ومنظمات المجتمع المدني لم تبلغ بعدُ درجة ترسيخ نفسها كقوة اقتراحية وكسلطة ناشئة تسهم في الدفع بعجلة المشروع الديمقراطي الذي يطمح إليه المغاربة، فالدستور ينص على أنه "تُساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها"، فلماذا لم تستطع جمعيات المجتمع المدني الارتقاء إلى مستوى الطموحات؟ وما أهم العوائق؟ وما أبرز الحلول؟
يشهد المغرب تطوراً ملحوظاً في مجال الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني بصرف النظر عن طبيعة ذلك التطور، حيث تكشف المعطيات الرقمية للتقرير السنوي حول "وضعية الشراكة بين الدولة والجمعيات 2016" عن بلوغ عدد الجمعيات 130 ألف جمعية. كما تكشف لائحة الأمانة العامة للحكومة، حول "الجمعيات ذات المنفعة العامة 2016″، عن بلوغ عدد الجمعيات المتمتعة بصفة "المنفعة العامة" 221 جمعية.
وتشير المعطيات الرقمية إلى ازدياد حجم الدعم المالي الموجه للعمل الجمعوي الذي بلغ 3 ملايين درهم (300 مليار سنتيم)، علاوة على شيوع فكرة إنشاء أنسجة وروابط جمعوية، سواء تعلق الأمر بالمجال التنموي أو بالمجال الحقوقي أو الثقافي، كما تشير المعطيات الرسمية إلى بلوغ الدعم الأجنبي للجمعيات 29 مليار سنتيم سنة 2016.
ويبدو من خلال المعطيات الرقمية أن تطور جمعيات المجتمع المدني تصاحبه اختلالات بنيوية بارزة، حيث تظهر معطيات الحكامة المالية أن 80 في المائة من الاعتمادات المالية المخصصة لدعم المجتمع المدني تذهب إلى 20 في المائة من الجمعيات فقط، وأن نحو 0.3 من الجمعيات تستحوذ على 36 في المائة من مجموع الاعتمادات الموجهة للشراكة بين الدولة والمجتمع المدني.
وتشير معطيات الشفافية والحكامة إلى أن 95 في المائة من الجمعيات لا تقدم أي كشف بخصوص حساباتها، ولا يقتصر الأمر على الجمعيات الصغيرة؛ بل يمتد إلى جمعيات "الحظوة" المتمتعة بصفة "المنفعة العامة"، فقد كشف تقرير الأمانة العامة للحكومة عن مراسلتها 166 جمعية تحمل صفة المنفعة العامة لم تدلِ بتقاريرها المالية السنوية، وتبين لها أن 17 جمعية منها لم تدلِ بشكل قاطع بتقاريرها.
وتؤكد المعطيات المتعلقة بالحياة الجمعوية، ومنها البحث الوطني للمندوبية السامية للتخطيط حول "المجتمع المدني"، أن أكثر من نصف الجمعيات المغربية لا تتوفر على مقر، وأن 80 في المائة من الجمعيات تعاني نقصاً في التجهيزات الضرورية، وأن 5.4 في المائة فقط من الجمعيات تتوفر على ميزانية تفوق 500 ألف درهم، وأن 32 في المائة من موارد الجمعيات تأتي من الهبات والتمويلات الجارية المقدمة من الأسر ثم الدولة.
وتؤشر معطيات التنظيم الذاتي للجمعيات على ضعف في الحكامة وخضوع الفاعل الجمعوي للفاعل السياسي، كما تظهر تلك المعطيات وجود عملية تفريخ لكثير من الجمعيات في سياق انبثاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، في مقابل محاربة جمعيات سعت إلى أخذ مسافة بينها وبين الدولة وشكلت عامل إحراج للنظام في قضايا حقوق الإنسان أمام المنتظم الأممي.
لقد واجه المجلس الأعلى للحسابات صعوبات كثيرة في مهمة مراقبة استخدام الأموال العمومية الممنوحة للجمعيات، وقد تضافرت عدة عوامل لإفشال مهمة تتبُّع مسار صرف 3 مليارات درهم تلقتها الجمعيات من طرف القطاعات الحكومية والمؤسسات والمقاولات العمومية سنة 2014. ولعل أهمها غياب المعلومة، وعدم مسك الوثائق المحاسبية، وانعدام الحكامة والشفافية، وغياب اتفاقيات بالنسبة للإعانة التي تتجاوز 50 ألف درهم.
كما واجهت الأمانة العامة للحكومة صعوبات كثيرة في مهمة مراقبة الدعم الموجه للجمعيات، إلى درجة أن الأمين العام للحكومة، إدريس الضحاك، اعترف بفشل مهمة الرقابة؛ بسبب كثرة المتدخلين في الموضوع، لذلك طالب إدريس الضحاك بتوحيد الجهة المدبرة للعمل الجمعوي والدعم الممنوح له داخلياً وخارجياً، وإعمال نظام الحوسبة والقوانين المعمول بها.
لقد انتهت لجنة مراقبة المالية بمجلس النواب إلى ملاحظة فارقة؛ وهي أن دعم الجمعيات ريع تحكمه الانتخابات والأيديولوجيات، ولعل الذي حمل اللجنة على إبداء تلك الملاحظة هو ملاحظتها أن الدعم غير مؤطر بمشاريع وبرامج محددة مسبقاً في إطار اتفاقيات شراكة من شأنها تسهيل عملية مقابلة الأهداف بالمخرجات للوقوف على الأثر على المواطن المستفيد، ومن ثم تقديم تقييم مبنيّ على أسس موضوعية.
يتبين من المعطيات السابقة أن هيئات المجتمع المدني بقدر ما تعرف تطوراً ملحوظاً في العدد والنوع والدعم المالي، فإن الاختلالات والتناقضات لا تنفك تصاحبها في مسار إرساء مجتمع مدني قوي ومستقل، كما يُستشف من تلك المعطيات أن جمعيات المجتمع المدني تنقسم إلى صنفين: صنف يمكن تسميته جمعيات "الحظوة والمنزلة"، وصنف يمكن أن يندرج ضمن الجمعيات المؤثثة لمشهد الحياة الجمعوية.
كما يتضح من خلال المعطيات الرسمية المتأتية من تقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وغيرهما، أن السلطة ما زالت تمارس الشطط ضد الجمعيات أو بالأحرى ضد بعض الجمعيات المصنفة ضمن "المزعجة"، وهو ما يرجح وجود جمعيات محمية وجمعيات أخرى يُمارس ضدها الشطط والتضييق؛ فقط بسبب الاختلاف في تقييم منظومة حقوق الإنسان أو رؤيتها لقضايا كبرى.
وتؤشر المعطيات السابقة إلى أن جمعيات المجتمع المدني ما زال أمامها مسار طويل لتعزيز حضورها وتحولها إلى قوة اقتراحية قوية وضمان استقلاليتها الكاملة عن القوى السياسية، كما أن أمامها مشوار طويل لفك كل ما ألصق بها من تهم، خصوصاً فيما يتعلق بالجانب المالي والتدبير الذاتي، ولعل الحوار الوطني حول المجتمع المدني قد أعطى تشريحاً للأعطاب في انتظار إخراج حلول من رحم القانون والقواعد الديمقراطية.
ويمكن اقتراح جملة من التوصيات التي قد تسهم في حل جوانب من الموضوع، من قبيل إحداث صندوق موحد خاص بدعم الجمعيات وفق برامج وشراكات، إضافة إلى إعادة النظر في معايير تصنيف الجمعيات ذات النفع العام؛ حتى لا تبقى جمعيات الحظوة أزلية، إضافة إلى منح الدعم للجمعيات من طرف الجماعات الترابية على أساس المشاريع المقدمة وليس كريع سياسي إبان الانتخابات.
ويمكن اقتراح تمكين الجمعيات من الاستفادة من الإعفاءات الجمركية، وإنشاء مرصد وطني لتتبع التطور الكمي للجمعيات وانتشارها الجغرافي، وتحديد حاجاتها في مجال التكوين والتأهيل والدعم المالي، ولعل أبرز المقترحات ذات الأولوية إقرار مدونة الحياة الجمعوية، ونشر المعلومات المتعلقة بالشراكات الخارجية والداخلية وعمليات التماس الإحسان العمومي المتعلق بكل الجمعيات.
في الختام، يجب ألا تصرفنا الاختلالات والخروقات التي تسقط فيها جمعيات المجتمع المدني عن دورها المحوري في التنمية والتطوير وتعزيز المشروع الديمقراطي؛ إذ لا ديمقراطية من دون مجتمع مدني قوي، وهو ما يستدعي إحداث ثورة في الحياة الجمعوية تصبو إلى إصلاح الاختلالات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.