في صبيحة ذلك اليوم وعند تصفّحي بعض ما تجود به صحف هذا الصباح، جذبتْ انتباهي رسومٌ بيانية وأرقام موزعة بجداول تتلون تارة بالأحمر وتارة أخرى بالأزرق. لم يكن ذلك سوى تقرير لإحدى المنظمات الدولية حول نسبة الأمية في العالم ومن ضمنه العالم العربي، فيما تبع ذلك التقرير مقالة لأحد المثقفين يهجو بها الترك والعثمانيين ولا يبقي ولا يذر، متهماً إياهم بجلب التخلف والجهل إلى عالمنا العربي، ويمجد ويمدح بعض الدول العربية ومن يقف على رأسها.
لقد هالني كيل المديح لذلك الحاكم تماماً كما هالني اتهام الأتراك وتلفيق التهم جزافاً لهم دون أي دليل علمي أو مادي؛ بل كال المديح لديكتاتوريات عملت -ولا تزال تعمل- على تجهيل شعوبها في سبيل الحفاظ على كرسي السلطة وما ورثوه ممن سبقهم وممن لم يستحقوها أصلاً.
لعل سطوري هذه لا تهدف إلى الدفاع عن أحد أو تبرئة منظومة ما؛ بل أبحث عن الحقيقة الصماء التي لا يزال الكتمان يحجبها بينما حبال الكذب والنفاق تسرح وتمرح وكأنها خيوط شمس لا تنتهي!
فلنعترف بأن عالمنا العربي يرزح تحت وطأة الجهل والتخلف منذ عقود ويحتاج لمعجزة كي يتخطى هذه المرحلة الحضيضية، التي لا بد من عبورها وجعلها من الماضي مهما كانت صعبة وباهظة التكاليف. ومن هنا، لا بد لنا أن نأخذ العبر من تاريخنا العريق وماضينا المجيد وألا نشوهه أو ننكره في خضم بحثنا وتحسُّسنا طريق الخلاص من الجهل والفقر والتخلف.
سأتوجه غرباً.. إلى المغرب العربي، فحاله لا يختلف كثيراً عن مشرقنا العربي، فهو غارق في الجهل والتخلف والفقر. نعم، لم يحكم العثمانيون مغربنا العربي قط، وخاصة المغرب. من المتهم ومن المسبب في هذا التخلف والجهل الجاثم على صدور المغاربة؟! كل الإجابات لربما ستكون صحيحة حتى ولو بشكل جزئي، إلا تلك التي تتهم العثمانيين بإشاعة التخلف في مغربنا العربي؛ فالعثمانيون لم يحكموا تلك البلاد بأي شكل من الأشكال.
إلى الشرق قليلاً، سندخل إلى مناطق الجزائر وتونس حتى ليبيا ومصر، فالعثمانيون خسروا نفوذهم بتلك المناطق في القرن التاسع عشر، وكانت أولى ثمار الاحتلال الفرنسي للجزائر غلق المدارس وتجهيل الشعب وهجرة العلماء، ومنذ ذاك الحين يتهم بعض الليبراليين، الترك بتجهيل عالمنا العربي. ولعل مصر، أكبر الأقطار العربية، خضعت لحكم الإنكليز أواخر القرن التاسع عشر ولم تكن بهذا التخلف والجهل من قبل، وخاصة في فترة حكم سلالة محمد علي باشا التي كانت شبه مستقلة ولا تتبع الدولة العثمانية إلا شكلاً واسماً لا غير.
وها قد مررنا بثلثي العالم العربي المتمثل بأقطار شمال إفريقيا أو ما يسمى شمال الصحراء الكبرى، ولم نجد أثراً ويداً للعثمانيين في تخلف هذه الأقطار وتجهيلها إلا بالنزر اليسير، وقد تناسى بعض مثقفي عالمنا العربي الأسباب الرئيسية والأساسية لهذا الجهل والتخلف، واختاروا السهل منها، والذي يتماشى ومصلحة الأنظمة الديكتاتورية الوظيفية استكمالاً لعملية التجهيل والتخلف التي أطلق شرارتها الأولى المحتل الأوروبي.
لم أنسَ الجزء الشرقي من عالمنا العربي، وكيف لنا نسيان تحالف العالم أجمع، بدءاً بالغرب الأوروأميركي وانتهاء بحكام الدول الوظيفية، لمحاربة علماء العراق وإنهاء النهضة العلمية في ذلك القطر العربي تحت ذرائع وحجج واهية وأكاذيب لا يستسيغها عاقل، فكان الحصار العلمي والحظر على تدريس العراقيين أياً من الموضوعات المتقدمة والمساهمة في نهضته- أولى العقوبات المفروضة على علماء العراق، ومن ثم التصفية الجسدية والقضاء على العلماء وبشكل نهائي.
هل العثمانيون براء؟ من الغبن أن نبرّئ العثمانيين مما أصاب مشرقنا العربي، إلا أنه من الغبن والظلم أضعافاً مضاعفة أن نحمِّلهم هذا الكم الهائل من الجهل والتخلف، فقد أصابهم من الجهل والتخلف ما أصاب عالمنا العربي؛ بل وأكثر منه. أما الغرب، فقد ألزمنا التخلف والجهل بالقوة رغم تحضّره وتقدّمه. وكي تكتمل الصورة وبشكل جلي، وجب أن نشير بأصبع الاتهام إلى أنفسنا وأنظمتنا المتخلفة التي قامت على ما رسمه الغرب من خرائط ومخطوطات احترافية، أنتجت طوائف وشعوباً جديدة لم تُعرف سابقاً لدى أسلافنا.
خلاصة القول: محاربة الجهل والتخلف تبدأ بالتمحيص الدقيق والصائب لمسبباته دون مواربة وتماهٍ مع أنظمة الحكم الوظيفية التي عملت -ولا تزال تعمل- على تجهيل شعوبها، وإغراقهم في الجهل في سبيل الحفاظ على مناصب لم تحصل عليها إلا بعد عملية استرضاء واستجداء من الغرب المتقدم والمتحضر، حاضراً، والمحتل ومسبب الجهل وزارعه سابقاً، والمحافظ على وتيرته وتعميمه حالياً، عبر دعمه أنظمة شمولية تحكم بعقيدة جاهلية متخلفة لا تعدو ولا تتعامل مع شعوبها إلا بالسياط، أو كمالكِ المزرعة مع ساكنيها.
الجهل والتخلف مآلهما الدفن دون عودة، وذلك لن يتسنى إلا بالتخلص من مسبباتهما وأركانهما الحقيقية، والإشارة بشكل مباشر إلى أولئك المستفيدين منه، وطبعاً تقويمهم أو اقتلاعهم إن لزم الأمر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.