يُحكى أن رَجُلاً اسمهُ (شعب) كان يملك بيتاً، وزوجاً، وأولاداً كثراً، يعيشون وسط جيران هُم أقارب في مُعظمهم، وفيما تيسر لـ(شعب) من رزقٍ قليل يسعى إليه جاهداً، كان يعيش هو وأبناؤه حياة الكَفاف والبساطة، وكان لـ(شعب) أخ اسمه (حَكم)، رباه (شعب)، وأنفق عليه وأرسله ليكمل تعليمه في بلاد بعيدة مشهورة بالعلم والتنوير.
عاد الأخ (حكم) وقد حصل على شهاداتٍ من بلاد الغُربة، لم يستطِع (شعب) أن يقرأ منها سوى رقم مكون من خانتين تشبهان رغيفَي خُبزٍ متقاربين، وفسرها له أخوه بأنها علامة تدل على الامتياز، وأنه بحصوله عليها أصبح مؤهلاً لإدارة شؤون المنزل والرقي به إلى مرتبة منازل النبلاء، وطلب منه بكل أدب أن يرتاح ليكمل هو عنه المشوار، ويحسِّن له ولأسرته وضعهم المعيشي، من باب رد الجميل.
فعلاً، سلَّم (شعب) مقاليد أمور المنزل لأخيه المتنور (حكم) على أمل أن يتغير حالهم إلى ما هو أفضل، لكن (حكم) وبمجرد أن تسلم أمور البيت بدأ بفرض نفوذه وإحكام سيطرته على كل شيء، وانتقى من أبناء أخيه أضحلهم تفكيراً، وأكثرهم وَضَاعَة ليكونوا مرافقيه وعسسه، ومن بدا عليه من أبناء أخيه ملامح فطنة أو مؤشرات ذكاء، فإما أن يحبسه في سرداب البيت أو يطرده خارجه -في حال أبدى أي اعتراض على تصرفات عمه- أما إذا التزم الصمت كحال أبيه (شعب) وباقي إخوته فيكتفي بإبقائه تحت المراقبة.
وحََكَمَ (حكم) واستحكم وأضاف لاسمه ألفاً بعد الحاء؛ ليصبح الحاكم الوحيد للمنزل والمتنفذ بكل ما فيه من غرف وأثاث، وبدأ يؤجر غرف المنزل غرفة غرفة لمن يدفع أكثر من أصدقائه الغرباء ولهم حرية التصرف فيما يستأجرون، فمن أراد أن يَستأجر الغُرفة للعب القمار فله ذلك، ومن أرادها لممارسة الرذيلة فله ذلك، ومن أرادها للاتجار بالممنوعات فله ذلك، المهم أن يدفع لـ(حاكم) ثم ليفعل ما يشاء، وقد زاد الحظ (حاكم) أن اكتشف في إحدى زوايا الغرف بئر ماء نقي، مما ضاعف مَدخولَه أضعافاً مُضاعفة من بيع الماء لجيرانه الذين يشكون العطش والجفاف دائماً، ورغم أن (حاكم) قد تكفل بإطعام وتعليم وكسوة أبناء أخيه، وإعالتهم، ولو بالحد الأدنى من متطلبات الحياة، فإن (شعب) كان مستاء جداً،
فأبناؤه الطيبون الذين كانوا يفدون بعضهم بالأرواح والمُهج أصبحوا يكرهون بعضاً ويقتتلون فيما بينهم إرضاء لنزوات عمهم وتقرباً له، وبناته اللواتي كن مشهورات بالطهر والعِفة ويُضرَب بِهنَّ الَمثل في الأخلاق والاستقامة، صِرنَ سِلعَةً يُتاجِر بِها العَم (حاكم)، وصارت سيرتهنَّ السيئة حَديثَ المجالس، وقصص الرُكبان؛ حتى إنَّ (شعب نفسه وزوجته) لم يعد بمقدورهما التنقل في بيتهما بحرية كالسابق بسبب أصدقاء (حاكم) السيئين الذين يملأون البيت، والمستأجرين الغرباء الذين لونوا البيت بألوان قبيحة غير التي اعتاد عليها (شعب) وزوجته.
لم يرق هذا الوضع لـ(شعب) واعتبر أن وعود أخيه له بالرخاء والعيش الرغيد لم تعد كونها احتلالاً لبيته واستغلالاً لثرواته، ورمي فتات هذه الثروة له ولأبنائه، فقرر أن يواجه أخاه بما يعتلجُ في صَدرِه، وطالَبَهُ بأن يغير نهجه السقيم في التعامل معه ومع أبنائه، أو أن يترك البيت ويرحل.
لكن (حاكم) لم يُعجِبهُ كلام أخيه (شعب) وواجه مطلبه هذا باللامُبالاة بِدايةً، ثُم بالتعنيف والتوبيخ لاحقاً، إلا أن وصل الأمر إلى استخدام القوة وتهديد أخيه بالقتل والتشريد، أو هدم البيت فوق رأسهِ ورأس أبنائِه إن أصر على هذا المطلب.
سمع الجيران بالمشكلة الواقعة بين (شعب) وأخيه (حاكم) وهرعوا إلى المنزل على وقع صوت تكسير الأواني الناجم عن اقتتال الأخوين، وحاولوا تقريب وجهات النظر بين الأخوين المقتتلين، ولكن دون جدوى. فكل قَد حسم أمره ألا يتراجع عن رأيه قيد أُنمُلة، وأصبح الوقوف على الحياد أمر غير وارد عند البعض فانبرى من الجيران فريقان، فريق يرى أحقية (شعب) في استعادة بيته وتربية أبنائه كما يريد، وهذا الفريق ناصر (شعب) وأمده بالمال والسلاح والدعم المعنوي والمادي لاستعادة حقه في حكم بيته، وفريق آخر رأى أن شعب مُخطئ، ومتخلف،
بل ويخدم أجندات غربية، ولا يعرف أين تكمن مصلحته، وأن أخاه (حاكم) المتنور المتعلم أدرى بمصلحته وبما يصلح شؤون البيت أكثر، وهذا الفريق ناصر (حاكم) وأمده بالمال والرجال والسلاح ليثبت حكمه ويردع تطلعات أخيه غير المسؤولة.
وأما باقي الجيران فقد اكتفوا بالمشاهدة والترقب، وتبادل الاتهامات وتنميق التحليلات فمنهم من يمتدح شجاعة (شعب)، ويتمنى له أن يستعيد بيته ويتحرر من ظلم وتسلط أخيه، ومنهم من يذم (شعب) وينعته بالغباء؛ لأنه تسبب في تخريب البيت وتدمير أثاثه وتشريد أبنائه خارجه.
وحتى كتابة هذه السطور ما زال شعب جالساً على أطلال بيته المتهدم يرقب الجيران يقتتلون داخله، وهو لا يعلم من يريد أن ينقذه، ومن يريد أن يرث أخاه!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.