بغداد السلام، أو هكذا كانت، حتى أتت الطغمة الحاكمة الحالية على ظهر الدبابة الأميركية وتسلّمت مقاليد السلطة في عام 2003، قبل هذا العام المشؤوم كانت العاصمة العراقية خيمةً يستظلّ بها أهلها، على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وألوانهم، يعيشون فيها بسلام، ويتنعّمون بالأمن، رغم الحصار الاقتصادي الخانق المفروض على البلد آنذاك، أما اليوم؛ بات الجميع معرضين للاستهداف، لا أحد يَأمن على نفسه حتى لو جلس بين جدران منزله، وغلّق أبوابه عليه.
كثيرةٌ هي الظواهر التي حوّلت بغداد من مدينةٍ للسلام إلى مدينةٍ تعشعش الجرائم في كل حيٍّ من أحيائها، "الخطف" من أهم هذه الظواهر، فمع الانفلات الأمني وانتشار السلاح وانحسار هيبة الدولة والقانون، أضحى مهنة تدرّ أموالاً طائلة، فقد قدّرت بيانات وزارة الداخلية ومنظمات المجتمع المدني بأن عصابات الخطف تجني 1.5 مليون دولار شهرياً في بغداد وحدها.
لم تتمكن السلطة الحاكمة طيلة أكثر من ثلاثة عشر عاماً من كبح جماح الجريمة المنظمة في بغداد، لا بل إنها وفّرت للعصابات والمجرمين بيئة مشجعة لممارسة إجرامهم، فعمليات الخطف التي تحصل فيها تقف خلف أكثرها جهات سياسية أو مسلحة تمتلك نفوذاً في الدولة العراقية، وهي تحاول تمويل نفسها من خلال المبالغ المستحصلة من ذوي المختطفين.
ويؤكد ذلك عضو مجلس محافظة بغداد غالب الزاملي، الذي اتهم حمايات مسؤولين في الحكومة بالوقوف وراء عمليات الخطف والاغتيال التي تشهدها العاصمة، ويتفق معه رئيس اللجنة الأمنية في البرلمان العراقي، حاكم الزاملي، الذي كشف عن أن هذه العصابات تمتلك هويات رسمية وأسلحة مرخصة، وتتجول بها في المدن، ما يؤمن لها غطاءً لتنفيذ عملياتها.
أغلب عصابات الجريمة المنظمة معروفة بأسمائها وبزعاماتها وبعدتها وعديدها وحتى الأماكن التي يُحتَجزُ فيها الضحايا، لا بل إنها تنفّذ معظم جرائمها أمام أنظار قوات الجيش والشرطة أو قرب نقاط التفتيش التابعة لها، وفي وضح النهار، لكن هذه القوات تخشى التدخل؛ لأن المنفّذين يرتدون زياً أمنياً ويحملون أسلحة متطورة ويستقلون عجلات دفع رباعي، تماماً مثل التي تستخدمها فصائل الحشد الشعبي ومواكب كبار المسؤولين في الدولة.
ويروي أبو محمد، وهو صاحب شركة تجارية، قصته مع خاطفيه، قائلاً إن "عملية خطفه تمت في وضح النهار، أمام شركتي وقريباً من نقطة تفتيش أمنية كانت موجودة في الشارع"، ويضيف أن "الخاطفين طلبوا فدية قدرها 2 مليون دولار، قبل أن يقبلوا بـ750 ألف دولار فقط بعد مفاوضات طويلة وعسيرة".
أما علي سجاد ذو الـ14 ربيعاً، فبينما كان عائداً من مدرسته في منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد، وقف للشراء من أحد محال المواد الغذائية، وعند خروجه منه توقفت سيارة سوداء رباعية الدفع واختطفته، ساومت العصابة عائلة الطفل، ورغم أن ذويه دفعوا جزءاً من الفدية المالية التي طلبها المختطفون وقدرها حوالي 41 ألف دولار أميركي، فإن عائلته وجدته بعد ذلك مقتولاً وتظهر عليه آثار طعنات السكين، قبل أن يعتدوا عليه جنسياً.
عمليات الخطف لا تقتصر فقط على رجال الأعمال والمستثمرين والعوائل التي تمتلك واردات مالية فوق مستوى المعيشة المتوسط؛ إذ لم ينجُ رئيس مجلس محافظة بغداد (رياض العضاض) نفسه من الخطف، فقد داهمت عصابة ترتدي الزي الرسمي وتستقل سيارات دفع رباعي منزله واقتادته إلى جهة مجهولة، ولولا تدخل مجموعة مسلحة أخرى ومداهمتها أوكار الخاطفين، لربما كان موضوع مساومة حتى اليوم، وكذا الحال بالنسبة لأربعةٍ من عناصر حماية رئيس الجمهورية فؤاد معصوم.
المصيبة هي أن وزارة الداخلية أعلنت أكثر من مرّة عن تورّط ضباط بالأجهزة الأمنية – بينهم ضباط برتب رفيعة – في عمليات الخطف التي تجري ببغداد ومناطق ومدن عراقية مختلفة، غير أن جهات سياسية تتدخل بعد القبض عليهم فيتم إطلاق سراحهم.
ويلفت الخبير في الشؤون الأمنية هشام الهاشمي نقلاً عن دراسات أمنية إلى أنه يتم يومياً العثور على ما بين (8 و10) جثث مجهولة في بغداد، فيما تراوحت أعداد المخطوفين يومياً بين (14 و20) شخصاً، يُحرَّر بعضهم مقابل فدية مالية، وآخرون يُقتلون رغم دفعهم الفدية.
ورغم كثرة حوادث الخطف التي حوّلت حياة البغداديين إلى جحيم، فإن الجهات الأمنية الرسمية لا تُصدر إحصاءاتٍ دقيقة فيما يخص هذه الظاهرة، كما أن وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني هي الأخرى لا تستطيع تناولها بجرأة ووضوح، وتأتي الخشية من هذه العصابات المتنفّذة في مقدّمة الأسباب، فبقيت هذه الجرائم حكايات ألم يومية يتداولها ذوو الضحايا مع المقربين لهم، خوفاً من أن يلحقوا بمن سبقهم من المخطوفين أو المقتولين.
ومع انتشار السلاح ووجود سيارات رباعية الدفع والتي لا يُمكن لرجال الأمن تفتيشها أثناء مرورها بالسيطرات وذلك لانتماء عناصرها لأحزاب سياسية نافذة أو جماعات مسلحة فوق سلطة القانون، فإن عمليات الخطف لا يمكن أن تنتهي، وهذا الأمر ساهم كثيراً باتساع ظاهرة الهجرة من العاصمة باتجاه مدن أخرى أكثر أماناً، أو ترك العراق والتوجه لدول أخرى.
لطالما تغنّى العراقيون بعاصمتهم بغداد بالبيت الشعري القائل:
سلامٌ على دارِ السّلام جزيلُ ** وعُتْبى على أنَّ العتاب طويلُ
لكن اليوم؛ تبدّل الحال والمقال، فالجميع أصبحوا يرددون ما قاله محمود درويش: "سلامٌ لأرضٍ خُلِقَتْ للسّلام.. وما رأت يوماً سلاماً"!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.