منذ مجيئي إلى تركيا، وأنا أحاول الاحتكاك بالفلسطينيين، أشم فيهم ريح القدس، أسمع حكاياتهم، وأنصت إلى لهجتهم المشعة بالنور، ومنذ ذلك الوقت، وأنا حريصة على صحبتهم يومياً، كلما رأيت فلسطينياً أرى مشاهد القدس وحاراتها والمسجد الأقصى، أستمع بتركيز كطفل صغير للهجتهم المقدسية بلا مُنكِّهاتٍ أخرى.
أن تكون فلسطينياً يعني أن تبحثَ عن أي صغيرٍ وكبيرٍ ينقلك إلى فلسطين وأجوائها؛ صورة معلقة على جدارٍ في منزلك، أو عَلم لفلسطين يأتيك عبارة عن هدية يثبت ملكيتك لأرضٍ تم احتلالها، أو شيء من زيت "الضفة"، أو بعض قصص قديمة "من أيام البلاد" تسمعها ألف مرةٍ ولا تمل، أو حسابات تتابعها لمن يسكنون هذه الأرض المباركة، أو غيرها.
ولقد أدركتُ مؤخراً أن وصف "فلسطيني" ليس حكراً على مَن وُلد آباؤه على تراب فلسطين، بل هي انتماءٌ عقائدي نتشاركه على اختلاف الأصول والمنابت.
كان يشغلُ بالي سؤال واحد منذ سنين طوال: كيف نصل إلى القدس؟ كان هذا السؤال يوماً طفولياً جداً لا أسعى من خلال إجابته إلَّا إلى أن تخبرني عن وسيلة نقل توصلني إلى هذا البلد المبارك، وكبر السؤال في داخلي عاماً تلو آخر؛ ليصب بحثي عن إجابة تخبرني عن وسيلةِ نصرٍ توصل الأمة لمرحلة تحرير القدس ومسجدها.
ورغم أن إجابة السؤال الأول كانت تدل على قرب المسافة الزمنية للوصول إلى القدس، فإن إجابة السؤال الثاني كانت تُنبئني عن بُعد المسافة الروحية للوصول إلى نصرة القدس.
فلسطين لا تهدي يوماً نصرها لشعوب تظنُّ أن الدفاع عن القضايا يكون بخطابات ومؤتمرات وتنديدات فحسب، فالأمم التي تستحق هذه الأرض المباركة هي تلك القادرة على الخروج من تيهها وضياعها، هي تلك الأمم المدركة لقيمة البركة ومعنى الولاية، هي تلك التي تربي جيلاً منذ صغره وشبابه؛ ليكون أهلاً إذا دخل القدس أن يعمّرها ويبينها.
ولذا فإن قرأتَ في تاريخ فلسطين مروراً بكل الأنبياء والحضارات التي استطاعت تحريرها ونصرتها، ستجدُّ أن أمر النصر لم يأتِ بينَ يومٍ وليلة، ولَم يكن على يد قائدٍ واحدٍ مغوار، بل كان النصر نتاجَ أجيالٍ تربّت وأُنشِئت وجيشٍ من وراء القائد يسانده عسكرياً وسياسياً وفكرياً، فالنصر هو بذرةُ النهضة والنهضة لا تولَدُ من عبثٍ أو فراغ؛ بل من جيلٍ حمل المسؤولية ومضى على درب واضح.
إذاً كيف نصل إلى القدس؟
ليس لمثلي على قلة علمي ودرايتي أن أجد إجابة واحدةً شافية لسؤال بهذا العمق، لكني سأتذكر هنا ما قاله ماجد عرسان الكيلاني في كتاب "هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس": "إن فترات القوة والمنعة في التاريخ الإسلامي إنما وُلدت حين تزاوج عنصران هما: الإخلاص في النية والصواب في العمل". فإن كان أفراد الأمة ينشأون على هذه القاعدة لتجاوزنا الشيء الكثير من العقبات، تخيل جيلاً تربى على مفهوم الإخلاص بالعمل فيتعب ويجتهد ويتقاضى أجراً ويشتهر ويتحمل الصعوبات وهو يدرك أن هذا العمل هو مُقدَّم لله ويُرتجى به نصرة الأمة، تخيّل جيلاً كبر على مبدأ البحث عن الصواب في كل عمل فينمّي موهبته ويختار وظيفته، ويسعى في كل عمره وهو حريصٌ على ألّا يُقدِّم إلَّا صواباً حتى إذا أخطأ تراجع وإذا أساء صحَّح.
قد نجدُ ذلك بعيداً أو مستحيلاً حتى، لكن من كان صادقاً بحبه ومدركاً للمسؤولية التي تحملها مُذ كانت الأقصى قبلةً أولى ومسرى نبي وبركة الأرض، يعلم جيداً أنه يملك الابتداء بخاصة نفسه، وكما يقول كذلك الكيلاني في نفس الكتاب: "فكن أحد رجلين؛ إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك، وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك".
إن أول خطوةٍ في الطريق إلى القدس هي "أنت"، هي روحك التي بين جنبيك، لا تلم النَّاس من حولك، ولا تنتظر معجزات من علم الغيب، ولا تبحث عن تفسيرات وتأويلات حول نهاية بني إسرائيل، أصلِح نفسك أولاً، واعرف دورك، وأخلِص لربِّكَ وأمتك.
لا زلتُ أذكر شعاراً اتخذناه في أحد الصفوف المدرسية بعنوان "لأجلها ندرس"، وكان الشعار يحمل صورة خريطة فلسطين.
حقيقةً، أجدُ نفسي اليوم بحاجةٍ لأن أحيي هذا الشعار بكل تفاصيل حياتي، أريدُ أن نستحضر في كل كبيرٍ وصغير وكل كلمة أن كل ما نقدمه هو لأجل هذه الأمة ولأجل قضايانا.
كن بحالٍ أفضل، كن صاحب علمٍ أقوى، كوني أكثر شهرة، كوني أكثر إتقاناً، ربّوا أبناءكم بصورة صحيحة، اتقوا الله في عمركم، فلنسد كل ثغرٍ يمكننا الوقوف عليه لأجلنا، لأجل أمتنا، لأجل قضايانا لأجل مسافة النصر ما بيننا والأقصى، وبذلك تكون وجهتنا.. إلى القدس بإذن الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.