جهود الجوار وغياب الثقة.. الأزمة الليبية في مفترق طرق إما استفاقة أو حسرة دائمة

الجديد في الأزمة الليبية هو تصاعد اهتمام دول الجوار بالملف الليبي، ليس بحثاً عن رفاهية واستقرار ليبيا وشعبها، ولكن تجنباً للضرر الذي بدأ يطرق أمنها وحدودها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/08 الساعة 01:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/08 الساعة 01:02 بتوقيت غرينتش

الأزمة السياسية الليبية وما تبعتها من انقسامات عسكرية واجتماعية أفرزت نخباً تتمترس برأيها، وتعتبر كل من خالفها عدواً وخصماً يجب إقصاؤه بكل ما أمكن من طرق، ولو بالتحالف مع خصوم الأمس، أو الاستقواء بدول إقليمية، أو غيرها ممن تداخلت وتقاطعت مصالحها معها، وتفتح الباب لكل من يريد أن يجعل القضية الليبية ملفاً للتفاوض بالوكالة بين كبار العالم.

مما لا شك فيه أن القضية الليبية حظيت بالاهتمام البالغ، والترقب الدقيق، والمتابعة عن قرب من المجتمع الدولي، فمن عام 2011 ومع إصدار القرار رقم سبعة من مجلس الأمن، ما زالت تشهد البلاد تخبطاً سياسياً وزيادةً في وتيرة الانقسام واشتعال المعارك داخل المدن، وكل طرف سياسي يقدم نفسه للعالم على أنه المنقذ والمخلص، وأن فيه شفاء وعلاجاً لكل من يرغبون من مكافحة الإرهاب والصفقات التجارية وضخ النفط وغيرها من ملفات يمكن المتاجرة بها، ويجعلون من أنفسهم الشريك المحلي الأفضل في ظل التزاحم في طريق البحث عن الشرعية المفقودة.

هذا ما كان يحصل في ليبيا حتى لحظة بزوغ فجر الاتفاق السياسي الليبي الموقَّع في الصخيرات المغربية برعاية أممية، ومباركة من الدول الفاعلة، الذي أسفر عن استحداث جسمين وإحياء الروح في جسم ثالث، والحديث هنا عن الجسم الجديد المتمثل في المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، الذي توسع من ثلاثة أعضاء إلى تسعة، في محاولة لإرضاء كل الأطراف المشاركة في جلسات الحوار الماراثونية متجاوزةً العامين، هذا التوسيع غير المدروس جعل صدور أي قرار من هذا المجلس يكاد يطرق باب المستحيلات، وإن حصلت المعجزة وصدر يخرج أحد التسعة ليطعن ويبطل القرار في مشهد تعوَّد عليه المتابعون للمشهد الليبي، أما المستحدث الثاني فهو ما سُمي بالمجلس الأعلى للدولة ذي الصفة الاستشارية، الذي تكوَّن في أساسه من أعضاء المؤتمر الوطني السابق، وما زال يبحث عن دور له، فاختصاصاته الموكلة لا تمارس إلا باكتمال الضلع الثالث، وهو البرلمان، وما ذكرته سابقاً بالجسم الذي أحيا الاتفاق السياسي الروح فيه، وهذا الأخير قد صدر بحقه قرار عن المحكمة العليا بدائرتها الدستورية أفضى ببطلان مخرجات لجنة فبراير/شباط التي شكَّلها المؤتمر لمخالفتها للإعلان الدستوري، واللجنة هي من أقرت قانون انتخاب البرلمان كمخرج للانسداد السياسي الذي تشهده البلاد في تلك الفترة.

وما كاد يتجاوز البرلمان هذه المعضلة حتى واجهته أخرى، وهي انتهاء مدة مهمته المقررة وفق لجنة فبراير/شباط؛ ليتخذ قراراً وصف بقمة الاستهزاء بالقانون الدستوري، مخالفاً لكل قواعد المنطق، ويعلن التمديد لنفسه.

الجديد في الأزمة الليبية هو تصاعد اهتمام دول الجوار بالملف الليبي، ليس بحثاً عن رفاهية واستقرار ليبيا وشعبها، ولكن تجنباً للضرر الذي بدأ يطرق أمنها وحدودها.

فتونس تضررت من الحالة الليبية؛ حيث تعتبر السياحة العلاجية والترفيهية من الليبيين مصدر دخل لا يمكن الاستغناء عنه، وتناقص هذه الإيرادات نتيجة تردي حالة الاقتصاد الليبي، أما الجزائر فيبدو أن همها الأول أمني، فهي وحدها تتحمل تأمين ومراقبة الحدود المشتركة مع ليبيا في ظل غياب الشريك الليبي نتيجة الانقسام السياسي وتشظي المؤسسة العسكرية.

هذا الانتشار لجنود الجزائر يتسبب في استنزاف اقتصاد الدولة بدرجة أقل، بالإضافة للجانب التجاري؛ حيث تملك الجزائر بعض الشركات العاملة في مجال النفط والغاز في ليبيا، التي تركت مواقعها نتيجة الظروف الأمنية، أما مصر فلها موقف آخر وتدخلها كان سابقاً لغيرها، فقد عوَّلت كثيراً على خليفة حفتر وقواته أملاً في حسم المعركة عسكرياً؛ ليُفرض أمر واقع على كل الأراضي الليبية، وضرب فصيل الإسلام السياسي فيها، الذي يخشى القادة الجدد في مصر من تمكنه من الحكم نتيجة للأحداث التي وقعت لديهم عقب ثورة الخامس وعشرين من يناير/كانون الثاني وما عقبها من تطورات؛ لتقدم لحفتر كل ما أمكن، ورغم سيطرة الجنرال المتقاعد على الحقول النفطية، فإن تخبطه في بنغازي وعجزه عن السيطرة عليها يؤشران إلى أن حلم سيطرته على العاصمة طرابلس بعيد المنال، خصوصاً في ظل وجود ثقل عسكري آخر غرباً، متمثلاً في مدينة مصراتة التي خاضت قواتها رفقة لفيف من أبناء المدن الأخرى حرباً ضروساً تحت مظلة رئاسي الوفاق ضد تنظيم الدولة في سرت انتهت بإنجاز باهر أشاد به القاصي والداني.

كل هذه المعطيات جعلت الدول الإقليمية تسارع في البحث عن حلول للأزمة الليبية، الذي بدأت خطواته فعلياً بإعلان تونس الثلاثي في إطار تسوية شاملة للأزمة الليبية، انطلاقاً من الاتفاق السياسي السابق ذكره، كمرجعية وأرضية للعمل، وما يزيد من دفع هذه الجهود قدماً هو المباركة من إيطاليا صاحبة الدور الفاعل في الملف الليبي.

ولكن الأمر أكثر تعقيداً الآن قياساً على الحوار الذي رعته الأمم المتحدة، والذي كانت أطرافه الرئيسية واضحةً، متمثلاً في البرلمان والمؤتمر الوطني، بالإضافة للتوسع في طاولة الحوار لتشمل الأحزاب والبلديات، ولكن الآن المقسَّم ازداد انشطاراً، فأصبح المؤتمر متمثلاً في شقين: الأول ضمن إطار المجلس الأعلى للدولة وهم أغلبية أعضائه، وشق آخر من الرافضين للاتفاق مستندين على رئيس حكومة الإنقاذ السابق خليفة الغويل، الذي أيضاً بدوره ما زال يضع نفسه في خانة الشرعية المطلقة، متخذاً من قصور الضيافة في طرابلس مقراً له.

أما البرلمان فلا يمكن أن نصنفه كجسم موحد منقسم في داخله إلى تكتلات سياسية وقبلية واصطفاف لحظي مبني على مواقف آنية متغيرة لا تتصف ببعد النظر وتقييم للقرار استراتيجياً، وانعدمت فيه الظروف المنطقية والطبيعية لمؤسسة تشريعية.

واحتكر القرار من رئيسه عقيلة صالح مستنداً على الواقع الديموغرافي بوجود البرلمان في مناطق نفوذ قبيلته، حسب ما يشتكي بعض أعضاء المجلس، فأصبح من غير المستغرب أن يهان عضو أو يضرب وحتى يغيب إن خالف عقيلة.

أضف إلى هذا الجسم الجديد المجلس الرئاسي المكون من تسعة أشخاص، لكل منهم منطلقات يستند إليها؛ ليتحول من أداة تنفيذية يفترض بها أن تسهم في التخفيف من معاناة الوطن وهموم المواطن إلى طرف في الأزمة، ورئيسه فائز السراج يطرق أبواب رافضيه تارةً -حفتر- وتارةً يأخذ منه معارضيه في طرابلس مقراته، وتارة أخرى يستعطف قادة الدول في زياراته الخارجية دعماً، وكأن ما لديه لا يكفيه، فهو لا يحتاج إلا قليلاً من الجرأة والحزم ليحدد مَن يقف وراء عرقلة أداء مهامه وعمله، وحتى هذه فشل فيها.

إذاً الثلاثي الإقليمي قد يكون قادراً على خرق فارق في الإشكال الليبي، ولكن كيف ستتعامل أنظمة ذات طبيعة عسكرية -لو استثنينا تونس- مع طموحات الليبيين في دولتهم المدنية؟ أم المصلحة تحتم أن يقبلوا ما لا يقبلونه في بلدانهم؟ أم أن صاحب المكتب البيضاوي الجديد دونالد ترامب سيكون له الفصل والحسم.

الأكيد وما لا يقبل القيل والقال والأخذ والرد أن استمرار الأزمة الليبية بهذه الطريقة سيبعد الحل كل يوم أكثر، وستصبح مستنقعاً لن يتجرأ أحد على الخوض فيه، وستنعكس حتمياً على دول الجوار بما معناه أن الحل، إما أن يكون الآن أو قد لا يكون أبداً، والقرار الأول والأخير رغم كل هذه التداخلات الإقليمية والدولية في يد الليبيين وسياسييهم، إما استفاقة مبكرة أو حسرة على وطن يضيع من بين أيديهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد