مما لا شكّ فيه أننا قد لا نختلف على صوتٍ يحملُ وجهنا، أو ينقل ملامحنا ويمثّلها أمام العالم، لا شكّ أن هناك أصواتاً حين نسمعها نطرب بها، تترك في مسامعنا أثراً، تُيقظ ذكرى، تُحيي مشهداً، وقد توجعُ قلباً أو ترسم بسمة.
هذه النفس البشرية، وهذا الإنسان بطبيعة الحال، بيد أن هذا كله لا يهم، لا يفيد بشيءٍ حتى، وفي الحقيقة أنا لم أشأ أن أتكلّم في مثل هذه الأمور، أعي تماماً أن الخوض فيها ما هو إلا مضيعة للوقت، لكنّي وبعد هذا المقال، لن أتطرق للحديث في هذه السالفة قط، إذ إنني سأفتح قلبي وأقول كلّ ما أريده حتى ولو كان كلاماً جارحاً أو غير مرغوب به لدى البعض!
أنا لم أشاهد برنامج "عرب أيدول"، ولم أكترث به منذ النشأة، لكن ولكي أكون صريحاً، تابعت عدّة حلقات على اليوتيوب، لأول موسم منه، كانت مشاركة فلسطين ووصولها لآخر المراحل أمراً لافتاً لنا جميعاً؛ لأننا نعلم أننا بلد مهمّش منذ البداية، وحظوظنا منعدمة في كل شيء، وفكرة وصول أحد مناً – يحمل جنسيتنا، ثقافتنا، يعيش في مخيماتنا – إلى المرحلة النهائية ويفوز كانت بمثابة فرحة غمرت قلوب الشعب المحروم من أبسط أساسيات الحياة، وهنا أنا لستُ بصدد الحديث عن الشعب المكلوم والمُحتل، ولا حتى أن أكسب التعاطف الخبيث لأجل أن أكون محل شفقة أو ما شابه.
بالأمس ذهبت لبقالة في حارتنا، كان الوقت يقارب التاسعة أو أكثر بقليل، عند وصولي لفت انتباهي عدد المتجمهرين عند البائع، في البداية خِلت أن شجاراً ما نشب، وكان هذا التوقع الأول لما رأيت، التوقع الثاني قلت إنها لعبة كرة قدم كما دوماً، لكني استطردت ذلك لأنه حسب علمي فإن يوم الجمعة لا يتم في أيّة مباريات لاسيما أنني متابع جيد لكرة القدم، لكن أعينهم كانت تتجه صوب شاشة التلفاز، وقفت مثلهم، تابعت، كان برنامج "عرب أيدول"..
سألت الحضور ما الأمر؟ رد أحدهم وقال: إن اثنين من الفلسطينيين وصلا إلى الحلقة النهائية واليوم إعلان النتائج، هززت رأسي ونظرت معهم إلى التلفاز، انتهى شاب يلبس الكوفية الفلسطينية من أداء الأغنية، مدحتهُ لجنة الحكم، وسارت مجريات البرنامج وأنا ما زلت أشاهد، أغنية أخرى لشخص آخر وأغنية..
ثم فاصل ثم أغنية، وقفت كثيراً وكانت هذه المرّة الأولى بحقّ التي أشاهد فيها البرامج على الهواء مباشرة، أكثر من نصف ساعة وأنا متسمّر أتابع، حتى إنني كدتُ أنسى من أجل ماذا جئت إلى هنا.
كل هذا الهراء الذي قلته أخف وأبسط من الهراء الذي سمعته.. وبكل صدق صُدمت بكلمات قالها أحد الفلسطينيّين عندما انتهى من الغناء، قال: أنا غنيت أعلنها يا شعبي أعلنها، وإن شاء الله سنعلنها قريباً!
قالها بقلب متكدّر وعين شبه دامعة، عندها بصقت أمام الحضور على الشاشة وغادرت؛ لأنّي في الحقيقة سمعت هذه الكلمات ممن يعدّون أنفسهم صانعي قرار ولم يفعلوا شيئاً، ندمتُ لأني وقفت وشاهدت وسمعت ما سمعت، ودون المبالغة حرق دمي وأثار غضبي، وجعلني أشتم كل شيء.
وهنا أود إجابة لتساؤلات فاضت بها حدود المنطق: ما هي التي سوف نعلنها؟!
هل كان يقصد دولة فلسطين المستقلة؟ من أين لها الاستقلال وهي متشققة ومنقسمة من داخلها؟! هل كان يقولها بحق، أم من أجل الضغط على أبناء بلده لأجل إغراقه في بحرٍ من الأصوات التي تؤهله للفوز؟!
قد تملكته حالة نادرة ناتجة من عظمة المشهد ووسع المكان اللامع بالأضواء، قالها ولا أظنّه يقصدها أو سيعمل من أجلها كما فعل من سبقه بكل تأكيد!
أنا لستُ من أعداء النجاح، ولست مغتاظاً من موهبة أحد، ولا يهمنّي أن يفوز ابن فلسطين أو ابن الشيشان.. الأمر هذا ليس من نطاق تفكيري ولا هو من أولوياتي أيضاً.. دعوني أقول إن هنالك ما هو أهم من الغناء، بعيداً عن الأكاذيب التي نصدّقها، فهي لن تسمن ولن تغني من جوع فعلاً!
تباً، ألهذه المرحلة وصلنا؟!
قد يتساءل البعض ويتعجب من قولي، سأخبركم وأريحكم، أنا لا أقول إنني لم أستمع إلى الأغاني من قبل، ولا أنكّر أنني في لحظات ما أبدأ بالغناء وتأليف الكلمات وتلحينها حتى، وحديثي ما هو إلا نتاج حرقة أوقدها ابن بلدي عندما سمعته يقول "سنعلنها"، كان يجدر به أن يبقى صامتاً ولا يكذب.
لماذا بات التهاون والكذب علناً؟
لن يضربه أحد على يده لو لم يقلها، ولن تُحسب له لو شاء الله وأعلناها!!
لماذا نخلط الأمور الساذجة بالأمور التي تحتاج إلى تضحية وجهد؟
إعلان دولتك -يا عزيزي- لا يحتاج إلى الغناء، مررنا بحروب كثيرة وغنّى لنا كلّ العرب دون جدوى!
برأيي لو صُرف ما صُرف على مثل هذه البرامج السخيفة وجمعت أموال الأصوات التي أتت من كلّ فج على أمورٍ أهم لكان أفضل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.