ما بعد الحقيقة “2”

تشير بدايات العام الجديد إلى أنه آتٍ بامتداد للظواهر التي بدأت في شغل المجال العام عام 2016، من ترَسخ القومية المتطرفة ورفض الآخر، لتفشي الكذب وسهولة تصديقه، فلم تلبث شخصيات بارزة أن استمرت في تزوير الحقائق لتحقيق مكاسب سياسية، وتحول الكذب من الحملات الانتخابية للسلطة التنفيذية لدول عظمى كانت وما زالت مثالاً يحتذى به في النظم السياسية والاقتصادية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/06 الساعة 01:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/06 الساعة 01:13 بتوقيت غرينتش

تشير بدايات العام الجديد إلى أنه آتٍ بامتداد للظواهر التي بدأت في شغل المجال العام عام 2016، من ترَسخ القومية المتطرفة ورفض الآخر، لتفشي الكذب وسهولة تصديقه، فلم تلبث شخصيات بارزة أن استمرت في تزوير الحقائق لتحقيق مكاسب سياسية، وتحول الكذب من الحملات الانتخابية للسلطة التنفيذية لدول عظمى كانت وما زالت مثالاً يحتذى به في النظم السياسية والاقتصادية.

منع وطرد صحفيين

في رسالة واضحة بأنهم قادمون، بعد يوم واحد من تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، اجتمع سياسيون من اليمين المتطرف والحركات الشعبوية الأوروبية في مدينة كوبلنتس الألمانية، عُقد الاجتماع تحت قيادة مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، وبمشاركة سياسيين من اليمين المتطرف بدول أوروبية كبرى مثل ألمانيا وهولندا وإيطاليا.

كان جلياً حماستهم والشعور بالقوة بعد انتخاب ترامب، فالآن يمكنهم الاستشهاد بـ"نماذج ناجحة" في تولي السلطة من قادة شعبويين يميلون للعزلة ورفض الآخر في دول ذات ثقل كبريطانيا والولايات المتحدة، جاءت مؤشرات هذا الحماس قوية وواضحة في التعامل مع الإعلام، حيث مُنع صحفيون من مؤسسات بعينها من تغطية الفعالية، لا سيما خطابات القادة الأوروبيين، عزا منظمو الاجتماع هذا المنع لكون وسائل الإعلام الممنوعة متحيزة ضدهم.

في وقت سابق، وفي مؤتمر صحفي لدونالد ترامب قبل تنصيبه، شاهد العالم عرضاً حياً لما يسمى بالـ"Flak"، وهو العامل الرابع من عوامل تصفية الإعلام في نموذج البروباغندا عند هيرمان وتشومسكي؛ حيث استغل ترامب ما لديه من نفوذ، لم يكتمل في تلك اللحظة، لمنع مراسل CNN من الأسئلة ووصف الشبكة بالأخبار المفبركة أو المزورة "Fake News"، الأمر الذي وصفه المراسل لاحقاً ببداية لما سيلحق بشبكات إعلامية أخرى إن لم يتخذوا موقفاً مسانداً لـ CNN ضد ترامب.

لم يتوقف التشكيك في مصداقية الشبكة عند هذا الحد، فكتب ترامب على تويتر التغريدة التالية، التي أعاد فيها وصفه للشبكة، فيما أثنى على شبكة FOX، الأخطر من وجهة نظري كان الجزء الأخير من التغريدة، الذي قال فيه: "الشعب ذكي"، وهي فكرة متكررة في خطاب ترامب، وتنبع خطورتها بأنها تجعل المستمع أو القارئ البسيط واثقاً فيما قاله ترامب، وإلا سيخرج عن زمرة الأذكياء.

ردت شبكة CNN بأرقام من تقرير إحصائي يثبت خطأ ما قاله ترامب، ولكننا رأينا فشل هذه الاستراتيجية في فترة الحملة الانتخابية عندما جاءت هيلاري كلينتون بما ادعت أنه "الحقيقة".

تحول الكذب للمؤسسة الرسمية

ربما هي المرحلة الأخطر تلك التي يتحول فيها الكذب من ثقافة فرد أو حزب إلى ثقافة المؤسسة السياسية الرسمية للدولة، فعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن الكذب جزء من لعبة السياسة، فإن عفوية ترامب في قول الأكاذيب، مدى تكرارها، ونجاحه في خلق بيئة مشجعة على الكذب، جعل المنظرين يفردون الصفحات بل ويبتكرون المصطلحات التي تناسب هذه الظاهرة.

شاهدت كما شاهد الملايين حول العالم فعالية تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وقد شاهد الملايين أيضاً كيف كان الحضور ضئيلاً مقارنةً بعام 2009 في احتفالية تنصيب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

أثارت هذه المقارنة بين الحشود التي تناقلتها وسائل إعلام كبرى على صفحات مواقعها وحسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بها حفيظة الإدارة الأميركية الجديدة، فخرج شون سبايسر، المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض، ببيان يهاجم فيه المقارنات، ويصرح بأن الحشد كان الأكبر على الإطلاق، الأمر ذاته تكرر أخيراً عندما هاجم سبايسر وسائل الإعلام مجدداً لما وصفه بتضليل للرأي العام في عقب قرار ترامب بمنع مواطني 6 دول من دخول الولايات المتحدة.

هو لا يحتاج للإعلام، لماذا إذن يستمر في انتقاده؟

طريقة تعامل ترامب وإدارته مع الإعلام لا تعدو كونها ردود فعل على بعض المقالات، فهي استراتيجية قائمة على ما صرح به سبايسر بأن ترامب لا يحتاج إلى أن يمرر تصريحاته إلى الناس عبر وسائل الإعلام، فهو يتواصل مباشرة مع العالم من خلال حسابه على تويتر الذي يتابعه أكثر من 23 مليون شخص، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذن مهاجمة الإعلام بشكل متكرر؟ في رأيي الشخصي أن ترامب وفريقه يدركون جيداً مرحلة التحول التي يمر بها الإعلام حالياً في الولايات المتحدة والعالم، فقرابة المليارين لديهم حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي يمكنهم من خلالها التعبير عن أنفسهم أو متابعة الآخرين، على الجانب الآخر تتقلص شعبية الصحف والإعلام التقليدي ولو بمعدل بطيء.

هي فرصة إذن لفرض السيطرة على العالم الرقمي من خلال قاعدة متابعين ضخمة ورسائل قصيرة ومباشرة مناسبة لطبيعة المنصات الإلكترونية ومناسبة في نفس الوقت للخطاب الشعبوي الأبوي، في المقابل فالمحاولات المستمرة للتشكيك في مصداقية الإعلام ستجني نتائجها من خلال تسريع التحول للإعلام الرقمي المباشر بعيداً عن الوسطاء الذين يقدمون "أخباراً مفبركة"، ففي النهاية الشعب أذكى من أن يصدق الإعلام، ترامب فقط يقول الحقيقة!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد