لم تشهد أحياء كثيرة في العاصمة السورية دمشق أضراراً كبيرة نسبياً خلال الحرب المستمرة منذ 6 سنوات، لكن شح الوقود والكهرباء وارتفاع الأسعار والافتقار إلى فرص العمل جعل حياة سكانها بعيدة كل البعد عما كانت عليه قبيل الصراع.
وعلى الرغم من الأمان النسبي الذي حققته سلسلة الانتصارات العسكرية في الآونة الأخيرة للحكومة، فإن تلك المكاسب لم تحقق شيئاً يُذكر لتخفيف المعاناة التي اتضحت في طوابير السيارات الطويلة أمام محطات الوقود وطوابير المواطنين الذين ينتظرون دورهم لملء العبوات لتزويد المولدات الكهربائية بالبنزين.
ازدهار السوق السوداء
أما اللحوم التي كانت في مرحلة سابقة مكوناً أساسياً على موائد الكثير من السوريين، فقد تحولت إلى سلعة رفاهية بالنسبة لمعظمهم، وسط ارتفاع جنوني للأسعار وازدهار السوق السوداء.
وقال سفيان (47 عاماً)، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه كاملاً، لرويترز، بينما كان يتجول في معرض ينظمه تجمع لرجال الأعمال بحثاً عن فرص جديدة مع مئات الشباب السوريين الذين ضيّقت الحرب الآفاق أمامهم: "عم ندبر حالنا بالبركة".
وسفيان، مهندس بترول اضطر إلى الهرب من بلدة الشيخ ياسين في محافظة دير الزور مع زوجته وأولاده الثلاثة قبل نحو 4 سنوات؛ ليقيم في منزل شقيقته بضاحية قرب العاصمة دمشق، الآمنة نسبياً حالياً.
وأضاف قائلاً: "الحياة لا طعم أو قيمة لها. كنت مكتفياً ذاتياً. هذا العام استدنت من الناس".
مثل هذا الكفاح اليومي يكشف كم سيكون صعباً على الرئيس السوري بشار الأسد استعادة الحياة الطبيعية في أرجاء سوريا حتى وإن بددت مكاسب قواته المدعومة من روسيا وإيران آمال خصومه بإزاحته عن السلطة في المستقبل المنظور.
لكن، على الرغم من قسوتها ما زالت ظروف العيش في دمشق أفضل من مثيلاتها في أنحاء كثيرة أخرى من سوريا؛ إذ لم تمس الحرب تقريباً أجزاء واسعة منها، وقلما تشهد قصفاً مباشراً عليها، كما استعادت إمدادات المياه الجارية بعد انقطاعها أسابيع في وقت سابق هذا العام.
وفي مناطق أخرى تسيطر عليها الحكومة، تبدو الأضرار أوسع نطاقاً؛ إذ تنقطع المياه الجارية عنها فترات طويلة، ويواجه من يحاول دخولها أو الخروج منها مخاطر جمة جراء القتال.
وهي أيضاً أفضل بكثير من المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة المعارضة والتي تشهد دماراً هائلاً جراء القصف الجوي وتواجه نقصاً كبيراً في الغذاء والدواء والمياه.
تحمّل شظف العيش
ونزح نحو نصف سكان سوريا جراء صراع يتم عامه السادس في 15 مارس/آذار، ولجأ الكثير منهم إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، حيث يقيمون مع أصدقاء أو أقارب أو في مبانٍ حكومية، مثل المدارس، ولا خيار أمامهم إلا تحمل شظف العيش.
عندما غادر سفيان وزوجته وأولادهما بلدة الشيخ ياسين التي دمرتها الحرب ولجأ إلى الأمان النسبي الذي وفره له منزل شقيقته في دمشق، ترك وراءه منزلين وحياة رغدة.
وعلى الرغم من استمراره هو وزوجته في عملهما الحكومي عندما فرا إلى العاصمة، فقد جعل التضخم الهائل القدرة الشرائية لرواتبهما أقل بكثير من تلك التي كانت عليها قبل الأزمة، وباتا بالكاد قادرين على تأمين مستلزمات الحياة اليومية لعائلتهما.
وخسرت الليرة السورية 90 في المئة من قيمتها منذ بداية الحرب، ما أدى إلى ارتفاع هائل في أسعار السلع الغذائية الأساسية المستوردة، وتسبب في نقص بالبنزين والوقود المستخدم للطبخ والتدفئة.
وكشفت الطوابير الطويلة للسيارات أمام محطات الوقود مدى النقص الذي بات حاداً للغاية بالعاصمة السورية في أحد أقسى فصول الشتاء التي تشهدها البلاد منذ سنوات. لكن هذه الأزمة لا تشكل مأساة بالنسبة للقادرين على الحصول على المواد اللازمة من السوق الموازية بضعف الأسعار التي تحددها الدولة أحياناً.
وقال بهجت ياسين (65 عاماً)، وهو جندي متقاعد من ضاحية جرمانا: "هذه بلد المعجزات"، في معرض وصفه لشح مواد التدفئة بالبلاد.
وأضاف وهو يمسك بمدفأة غاز صغيرة أمام ورشة محلية لإصلاحها: "ما في مواد تدفئة. ما في مازوت بمراكز البيع الحكومية. بس فيه مازوت حر (في السوق الموازية)، من أين يأتون بالبنزين والمازوت والغاز الحر؟!".
وأضاف: "نحن نقدّر وضع بلدنا في الأزمة ولازم نتحمل كلنا. لكن يوجد منطق. عندما توجد المادة، يجب أن توزع بانتظام وبالتساوي. لا أن تُسلّم إلى التجار وتجار الأزمة. كيف يحصل ذلك؟!".
الحطب وسيلتهم
ويلجأ جزء آخر من السوريين إلى الحطب؛ لتأمين التدفئة، وسط عجزهم عن توفير تكلفة أي من أنواع الوقود.
وقال عبد (35 عاماً)، وهو يشرف على تقطيع الخشب وتحميله في شاحنة بمنطقة مفتوحة في ضاحية جرمانا، إن زبائنه هذا العام زادوا إلى الضعفين؛ إذ حول الكثيرون مدافئهم لتعمل على الحطب، أو حتى القمامة التي تطلق أبخرة ضارة، بدلاً من المازوت غير المتوافر.
وأضاف: "الناس المعترة (المعدمة)، ومعظمهم من المهجّرين، هم من يشترون الحطب وكمان أهل الريف والمخيمات. فيه ناس مو قدرتها تشعل حطب؛ بل يشعلون الكرتون والنايلون وفوط الأطفال في المدافئ. نزلت دمعتي ولكن لا نستطيع أن نفعل شيئاً".
أما مريم (55 عاماً)، وهي ربة منزل كانت تنتقي خضراواتها من سوق باب سريجة الشعبي في دمشق، فلا يدخل حتى الحطب في حساباتها.
وقالت لرويترز: "لما بدنا نتدفى منحط تحتنا الحرام (البطانية) ونتدفأ أو نقعد في الشمس شوي. لا يوجد خيار آخر".
ظلام دامس
في الليل، تغرق شوارع دمشق في الظلام الدامس وتنسحب مظاهر الحياة شيئاً فشيئاً من شوارعها التي كانت قبل الأزمة تكتظ بالساهرين والمتسوقين حتى ساعات متأخرة.
وقال وزير الكهرباء السوري، زهير خربطلي، في مقابلة مع رويترز: "كان لدى سوريا أقوى منظومة كهرباء في المنطقة قبل اندلاع الأزمة".
وحالياً، تمتد ساعات انقطاع الكهرباء إلى 15 ساعة في اليوم؛ جراء المعارك التي دمرت جزءاً كبيراً من البنية التحتية، وبسبب فقدان الحكومة السيطرة على أغلب حقول الغاز التي تمد محطات توليد الكهرباء بالوقود اللازم لتشغيلها.
وقالت إيمان (60 عاماً): "كل 4 أو 5 ساعات بتيجي الكهرباء ساعتين.. إذا إجت بشكل نظامي.. ويا دوبك (بالكاد) تلحقي تغسلي وتشحني الأضوية (الفوانيس الكهربائية) وكل شيء. أسلوب حياتنا كله تغير".
وأشار خربطلي إلى أن طاقة توليد الكهرباء في سوريا تدهورت من 8500 ميغاوات قبل الأزمة إلى 1400 ميغاوات حالياً، مشيراً إلى أن واحداً فقط من أصل 8 حقول للغاز ما زالت قادرة على تزويد محطات الكهرباء التي تسيطر عليها الدولة بالطاقة اللازمة.
وأضاف: "بلغت القيمة الإجمالية للأضرار في القطاع 1076 مليار ليرة سورية"، موضحاً أن المحطات العاملة "تنتج نحو 27 في المائة من قيمة الطلب".
رفاهية مفقودة
قبل الحرب، كان كثير من العائلات السورية ينتظرون العطلة الأسبوعية بفارغ الصبر للخروج إلى البساتين المحيطة بدمشق وتجتمع العائلات والجيران حول إعداد الأطعمة المشوية على اختلاف أنواعها. لكن "السيران" -كما يسمي السوريون هذه الرحلات- بات رفاهية لا يقدر عليها إلا القليل الآن.
وقالت ربة المنزل إيمان: "استغنينا عن المشاوير والبسط واللبس والطبابة.. كنا كل خميس وجمعة نطلع ونسهر. كل هالشغلات اتلغت. نؤمن الشغلات الضرورية." وأضافت: "شوفوا.. ما قدرت أعمل (أصفف) شعري بسبب انقطاع الكهرباء".
وفي هذه الظروف، وجدت العائلات السورية نفسها مجبَرة على التضحية بأمور إضافية. فقد اضطر عادل عواد (75 عاماً) إلى استبدال اللحوم بالدجاج، متذرعاً بفوائد لحوم الدواجن لتبرير اضطراره إلى خفض ميزانية المنزل.
وقال عواد: "لا أحد يكفيه راتبه نهائياً بين كل شرائح المجتمع. كيلو اللحمة سعره 6 آلاف ليرة سورية. أنا اللحمة شطبتها عن البيت نهائياً، ونلجأ إلى الدجاج حتى تستوي الموازنة. ضربت عصفورين بحجر واحد. الفروج صحي أكثر".
الأسعار ترتفع
وقال حيان سليمان، الخبير الاقتصادي ومعاون وزير الاقتصاد السابق، لرويترز، إن الحكومة تضع خططاً لتعزيز اكتفائها الذاتي في المستقبل وخفض الأسعار.
وأوضح سليمان أن الوضع الاقتصادي الحالي نتيجة طبيعية للخسائر الهائلة التي مُنيت بها قطاعات حيوية في البلاد، مثل الزراعة والصناعة والسياحة. لكن على الرغم من ذلك، لم تتوقف الحكومة يوماً عن دفع رواتب الموظفين.
وأضاف: "نعم السلع غالية وترتفع الأسعار كل يوم، لكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ الرقة والحسكة ودرعا وإدلب والمنطقة الساحلية كانت قلب القطاع الزراعي لسوريا، وجزء كبير منها هو اليوم خارج سيطرتنا".
لكن بالنسبة إلى مهندس البترول سفيان، ما زال في دمشق ما يستحق البقاء من أجله.
وقال: "ولادي طلبوا مني أسافر ورفضت الفكرة إلا إذا شعرت بأنني سأفقدهم، حينها أخرج من البلد. لا أحد يعرف الهجرة إلا من ذاقها.. قبل 4 سنوات ونصف السنة تدمر معظم قريتي وخسرت منزلَي. لكني ما زلت أبتسم وأحاول أن أرسم نقطة بيضاء وسط اللوحة السوداء من حولنا".