قبلت كل القوى الأساسية أن يدير عسكريون اختارهم مبارك مرحلةً ثورية لإعادة بناء نظام سياسي يُصلح ما أفسده مبارك!!.
وبينما كان الثوار يحتفلون بتنحي مبارك، مساء يوم الجمعة الموافق 11 فبراير/شباط، انشغل المجلس العسكري برسم خارطة طريق الثورة!! التي يبدو أنها كانت جاهزة مسبقاً ومرتبة على مَهَل. فبينما رحل مبارك، منتصف ليلة السبت 12 فبراير، صدر الإعلان الدستوري الأول، صباح الأحد 13 فبراير/شباط 2011، معطلاً لدستور 71.
تبعه بنهاية نهار نفس اليوم، قرار تنفيذي بتشكيل لجنة من قانونيين لاقتراح تعديلات محددة لدستور 77، خصوصاً النظر في إلغاء المادة 179 وتعديل المواد المتعلقة بالانتخابات بكل أنواعها، وهي المواد 77، 88، 89، 93.
وبعده بأيام قليلة دعا المجلس الناخبين للاستفتاء على تعديل دستور 71 في ثماني مواد مقترحة، بينما كان الأولى دعوته للاستفتاء على خارطة طريق متكاملة. لكن المجلس العسكري كان قد عيّن نفسه مفوضاً عن الجميع في رسم مستقبل الجميع.
لم يستغرق الأمر أكثر من أسبوعين لحصر الثورة والثوار ومصر كلها في إجراءات انتخابية وإجراءات متتابعة، تنهك أي شعب، وتستهلك طاقة أي ثورة لتجنب توجيهها مباشرة للإصلاح وتحقيق أهدافها.
ورغم شعور من دافع عن "الانتخابات أولاً" بالانتصار، بعد استفتاء 19 مارس/آذار 2011، وشعور القائلين "بالدستور أولاً" بالانكسار، فقد كانت النتيجة الفعلية انكساراً للطرفين، وانتصاراً للمُهيمن على المرحلة الانتقالية.
فرض المجلس العسكري، بإعلان 30 مارس/آذار، دستوراً مؤقتاً للبلاد، مكوناً من 62 مادة، بينها ثمانٍ فقط مُستفتى عليها، بينما 54 مادة اختلقها اختلاقاً، رسمت طريقاً متعرجاً ومتاهة لإضاعة أهداف الثورة، وإطالة بقاء المجلس بالسلطة، متحيناً لحظة مناسبة لإعادة الثورة إلى صدور الثوار، والثوار إلى السجون، والاستبداد إلى مقاعد السلطة.
وخلافاً للأعراف الدستورية، لم تُعطَّل المحكمة الدستورية، رغم كونها ليست محكمة قضائية خالصة، بل هي من ضمن المؤسسات السياسية التي تسقط بسقوط الدستور، وتتعطّل بتعطله. لكن المحكمة كانت الذراع الأهم الذي احتُفظ به ليستعمل لاحقاً في فك شفرات ثورة يناير.
أدرك المجلس، من أول يوم، أن نسيج الثوّار لم يكن شيئاً واحداً، وأن التنوع الذي كان ميزة لثورة يناير يمكن أن يكون وسيلة لشقّ صفوف الثوّار، ومن ثم لهزيمة الثورة ذاتها. فحاول استغلال الفجوة الأيديولوجية بين الإسلاميين والليبراليين لتقسيم الثوّار، ولخلق ثغرة في صفوفهم يمكنه أن يستغلها للنفاذ إلى أحشاء الثورة، ومن ثم إفسادها.
ارتكزت خطته على إجراءات أشبه ما تكون بخطة شارون في إحداث الثغرة بين أجنحة الجيش المصري في سيناء، قبل نهاية حرب أكتوبر/ تشرين الأول، المجيدة 1973؛ فشارون استغل اندفاع الجيش المصري المفعم بنشوة الانتصار والعبور، حتى إذا فقد ميزته المتمثلة في الحماية التي كانت توفرها له قبة صواريخ الدفاع الجوي؛ تقدم الجيش الإسرائيلي ليقسم الجيش المصري إلى جناحين، فتحسّن مركزه القتالي، ومن ثمّ التفاوضي.
وبنفس الطريقة، اعترت الثوار نشوة النصر، فاندفعوا لتحقيق كل أحلامهم التي كُبتت عشرات السنين دفعة واحدة: دستور، حقوق وحريات، رئيس مدني، شرطة بخدمة الشعب، جيش يحمي الحدود ولا يتدخل في السياسة، ميزانية كاملة موحدة يُراجعها الشعب دون إخفاء أي قيد منها… إلى غير ذلك من الأحلام المشروعة.
تُركت مساحة كافية للثوّار للاندفاع، وفي نفس الوقت كافية لتغذّي الخلاف والاقتتال السياسي. فقد كان الثوار يحملون أحلاماً وردية، لكنهم يفتقدون المشروع السياسي لتحقيقها، وبالتالي اختلفوا حول كل مشروع، إلا مشروع المجلس الذي يقود فقط لتهيئة المناخ لانقلابه على الثورة.
اعتمدت خطة المجلس على فتح المنافسة الانتخابية منذ اليوم الأول، لفتح شهية الجميع للاقتتال، وشغلهم عن التفاهم حول أساس بناء الدولة المدنية التي يحلمون بها.
كان الإخوان المسلمون الأكثر قبولاً بخطة طريق المجلس، بسبب ما يتمتعون به من ميزة نسبية في المواجهات الانتخابية، لكن غيرهم أيضاً لم يتورع عن القبول بها. الثوار وحدهم الذين خلت سجلاتهم من كل قدرات انتخابية لم يقبلوها؛ فهم عركوا الميادين طريقاً للإصلاح، ولم يعتادوا التعامل مع صناديق بيد العسكر.
التحول الديمقراطي في حقيقته لا يعتمد على مجرد تبني الانتخابات النزيهة، طالما لم تسبقها أو تُصاحبها خطة استيعاب واسعة للقوى الثورية، تضمن تعاونها في تحقيق أهداف الثورة والتصدي للمؤامرات، التي من المؤكد أنها ستتعرض لها. هذا ما سيكتشفه الجميع لاحقاً، عندما ستضمهم المنافي والسجون.
الجهد الوحيد الذي جرى لبناء شكل من التعاون، تمثَّل في محاولة تشكيل اصطفاف انتخابي واسع بقيادة الإخوان، وضمنه تنوع هائل من القوى الإسلامية كحزب البناء والتنمية -الذراع السياسي للجماعة الإسلامية- وكذلك من القوى الليبرالية كحزب الوفد وغد الثورة، وأيضاً من القوى اليسارية كحزب الكرامة.
لكن هذا المسعى ارتكز على نفس القناعة الأولى بأن الانتخابات هي الطريق الوحيد للتحول الديمقراطي.
أدت الحملات الانتخابية لزيادة الاستقطاب، وسمحت بتشكيل أجنحة مزايدة في كل معسكر. فجزء من الكتلة السلفية حاول إقصاء الإخوان المسلمين بعيداً عن قواعدهم المتدينة، باعتبارهم يتشاركون مع قوى "علمانية"؛ كما استفادت قوى مسيحية من الترويج لخطر قيادة الإخوان لهذا التحالف، فشكلت في المقابل مع قوى علمانية معادية تاريخياً للإخوان المسلمين ما سمِّي بالكتلة الوطنية.
جذب الاستقطاب الأضواء لتنحسر عن القوى الوسطية والثورية، التي تُركت خارج الأضواء، وأيضاً خارج التأثير الانتخابي الكبير بسبب عدم رغبتها، بل عدم قدرتها على الدخول في عملية استقطاب أيديولوجي واسع.
تبين لاحقاً أن انتخابات خريف 2011 وشتاء 2012، رغم نزاهتها، كانت الأكثر ضرراً على الثورة بما خلَّفته من مرارات. فبعدما نجحت ثورة يناير في القفز على الخلافات الأيديولوجية والعداوات التاريخية، فتحت انتخابات الخريف جروحاً ظننا أنها ضمدت.
خطأ الانتقال من الميدان إلى التنافس الانتخابي لا يقل بشاعة عن التخلي عن الميدان ذاته، لأنه بكل بساطة أفسح الطريق للقوى الأكثر تنظيماً بالمرور. وليس المقصود هنا الإخوان، باعتبارهم الأكثر تنظيماً بين الثوار، بل الدولة العميقة التي شكلتها أيادي النظام القديم، ولم تُصلحها أيادي الثوار، فهي الأكثر تنظيماً من الجميع.
كنا نحتاج استراتيجية مختلفة، تستند لوضع القدرات التنظيمية للأحزاب والجماعات التي يتوفر لها ذلك، خلف القوى الشبابية الصاعدة والرومانسية، والتي استطاعت أن تحقق اختراقاً تاريخياً في يناير، ولم يكن بإمكانها أن تستمر في توسيع ذلك الاختراق وتثبيت حلمها إلا بدعم تلك القوى التقليدية التي آمنت بالثورة، لكنها تخلت عن صُنَّاعها.
كان من شأن تثبيت الحلم بأيدي نفس الشباب، وبحماية ودعم القوى التقليدية، أن يجعل قدرة النظام القديم على الانقلاب على الثورة مسألة عسيرة، إن لم تكن مستحيلة.
للأسف، تمسكت كافة الأطراف برؤاها الخاصة، وأطلقت العنان لأحلامها الفصائلية، حتى تاه بينها الحلم الذي قامت عليه الثورة. ومن ثمَّ بدت كل خطوة يخطوها الثوّار للأمام كما لو كانت هرولة للخلف.
أدرك المجلس العسكري ميزات الثوار وعيوب التنظيمات السياسية، فأدار معارك مصطنعة، وطرح خططاً مفخخة يضع فيها أولئك في مواجهة هؤلاء؛ وليبقى هو قابعاً على رأس السلطة أطول مدة ممكنة، بما يسمح له بإدارة كل الأحداث بما يناسبه.
وما زالت الثورة المضادة تُحارب الثورة بنفس السلاح، مكتفية فقط باستنفار عوامل الاختلاف والتناقض بين أبناء الثورة والقوى السياسية المؤمنة بها، وتاركة الأمر للمزايدين والإقصائيين وعاشقي الاستقطاب، لاستكمال مهمة إنهاء ما تبقَّى من حلم الثورة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.